المركز العربى للتعليم والتنمية : المقالات

تاريخ النشر: 27 يوليو 2015
توصيف البرنامج: الإبداع والطريق إلى المستقبل
ليس ثمة شك فى أن العصر الذى نعيش فيه هو عصر القفزات السريعة، التى تجعل الإيقاع المعتاد الذى كان يتعامل به الناس فيما بينهم إلى عهد قريب لم يعد هو الإيقاع الذى يتعامل به العالم اليوم، ولن يكون الإيقاع القادم بعد سنوات محدودة مشابها للإيقاع الحالي للحياة والأحياء .. والإيقاع الذى أقصده فى هذا السياق يشار به إلى السرعة التى أنتصرف بها فى مواقف الحياة المختلفة والاستجابات الملائمة التى نتفاعل بها مع معطيات الواقع فى الوقت المناسب دون ما تقديم أو تأخير.
وفى دراسة نشرها "تورانس" عن زيارة قام بها إلى اليابان، أشار إلى أن العالم الغربى، وخاصة الولايات المتحدة،ما لم يسارع إلى القفز فوق الواقع الحالى، وصولا إلى الغد على جسر الإبداع فإن أمة ذات 115 مليون من المنجزين (يقصد اليابان) سوف تصبح فى فترة وجيزة هى الأمة الأولى فى العالم على جميع المستويات الاقتصادية والعلمية والفنية وغير ذلك، خاصة وأن بوادر هذا التفوق بدأت تظهر وبشكل واضح فى الكثير من المجالات.
وربما يكون من المناسب فى السياق الحالى الإشارة إلى ما نقصده بالإبداع حتى نتواصل مع القارئ فيما سوف نطرحه من أفكار.
الإبداع لغة هو الإتيان بأمر على شىء لم يكن ابتداء كما ورد فى لسان العرب: أبدعت الشىء اخترعته لا على المثال، وأبدع الشاعر أى جاء بالبديع ، والبديع المحدث العجيب.
وفى اللغة الإنجليزية يقرر "جوجاتينا" أن الإبداع Creativity  يرتد فى الأصل إلى الكلمة أو المقطع اللاتينى Kere  الذى يعنى النمو والفعل الإنجليزى يرتد Create أى يسبب المجىء إلى الوجود ..... وهناك من يرى أن الكلمة تعنى أن يؤصل .(KhatenaK, 1973), Originata  ويضيف "جاتينا" أن الاكتفاء بالمعنى القاموسى يحمل معه مصاعب جمة متعلقة بتحويل المفهوم إلى إجراءات قابلة للقياس، وهو ما سوف نقترب منه فى الصفحات التالية خاصة وأن هناك باحثين أشاروا إلى أن المعانى التى تشير إليها كلمة "إبداع" تتجاوز المائة ... ولكن من المتفق عليه عموما أن الإبداع يشار به فى الحياة اليومية، وكذلك فى الاستخدام الفنى إلى نوع من التصرف، أو السلوك المغاير غير المتوقع النافع والملائم لمقتضى الحال، والاقتصادى فى نفس الوقت.. وفى أى مجال يمت.
وجهك سوف تجد أن هذا المعنى للسلوك الإبداعى يرضى احتياجك ويفى بما هو مطلوب... فى الفن لا يكون المبدع مبدعا إذا كتب شيئا تقليديا ليس فيه جدة؛ بل هو تقليد لشىء تم إبداعه من قبل، وقد يكون المنتجProduct  جديدا ولكنه لا يكون ملائما لمقتضى الحال مثل تلك الأنماط من السلوك التى تصدر عن الفصاميين أو المتخلفين عقليا ... صحيح أنها قد تكون أنماطا جديدة من السلوك، بمعنى الشذوذ والقدرة وعدم التكرار، ولكنها لا تأتى ملائمة للموقف أو للسياق أو لمقتضى الحال..
وربما يكون المنتج جديدا وملائما، ولكنه لا يكون اقتصاديا؛ فاختراع وقود جديد للسيارات مستخلص من التراب مثلا فيه جدة، وقد يكون ملائما للاستخدام، ولكنه قد لا يكون اقتصاديا وفى هذه الحالة فإن حكما بالإعدام، وبالإهمال أو بالتأجيل قد يصدر ضد مثل هذا الاكتشاف..
وقد يرى البعض أن ما ليس ملائما الآن قد يكون ملائما للمستقبل، وما ليس اقتصاديا فى الوقت الراهن قد يأتى الوقت الذى يكون فيه مناسبا من الناحية الاقتصادية، ونحن نقول إن هذا جائز وممكن بالفعل .. ولكن من الناحية العلمية، وحتى يكون المنتج الإبداعى مقبولا ومستساغا، فإن الثقات من دارسى الإبداع وان كانوا لا يرفضون الجديد (غير الملائم وغير الاقتصادى بشكل مؤقت) إلا أنهم يوصون بأن الجهد الذى يبذله المبدع يجب أن يكون جهدا مرشدا ومسترشدا بالحاجة الاجتماعية، وبالظروف السياسية وبالواقع العملى، حيث تكون الرابطة قوية بين المبدعين من ناحية، وأولئك الذين يتلقون عنهم إنجازاتهم من ناحية أخرى، وكي يكون السلوك الإبداعى مرتبطا بالحاجات الاجتماعية وبالمتطلبات الاقتصادية.
وليس ثمة ريب فى أن القفزات قد تمت فى معظمها فى ظل الأزمات والحروب، بمعنى أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية هى التى تدفع وتحرك الجهد العقلى عند الناس، والجهد العقلى المطلوب فى تلك الأثناء هو غالبا جهد إبداعى ..
وربما يكون من المناسب أيضا أن نقرر فى السياق الحالى أن هذا الجهد العقلى الذى يشكل أهم أبعاد السلوك الإبداعى، ليس هو المسئول وحده عن فعل الإبداع، فقد اتضح لنا ولغيرنا أن المبدع ليس مبدعا لأنه يملك فحسب قدرات عقلية من طراز معين (كتلك القدرات التى أشار إليها جليفورد، 1979، ص 16، والتى من أهمها القدرة على الطلاقة Fluency والقدرة على المرونة Flexibility والقدرة على الأصالة Originality وغيرها) بل إن المبدع يكون مبدعا لأنه يملك مثل تلك القدرات العقلية الإبداعية مع قدرات عقلية أخرى تقليدية (مثل القدرة على الاستدلال والفهم اللفظى والتذكر والاستبصار ....الخ). هذا بالإضافة إلى تسلحه بعدد من سمات الشخصية الإيجابية مثل الجرأة والمغامرة والرغبة فى التفوق،والإنجاز، والثقة بالنفس، والجاذبية الشخصية والاجتماعية. كذلك وجد أن المبدع يجب أن يكون قادرا على صب كل هذه المفردات فى قوالب جمالية مناسبة للسياق ومقبولة لمن يتلقى عنه جهده أو ناتجه الإبداعى ... ثم بعد ذلك لابد أن يكون المبدع متواصلا مع جماعته مقبولا منها قادرا على التفاعل معها والتأثير فيها، مستعطيا قراءة احتياجاتها المستقبلية وملبيا لتلك الاحتياجات .. فى هذه الحالة وعندما يكتمل رباعى السلوك الفعال، تتحقق حالة من الفاعلية ربما فى لحظة محددة، وفى وقت معين، مما ينتج معه حالة فريدة من العطاء النفسى اطلقنا عليه مصطلح الأساس النفسى الفعال Psychic Functional Constitution تلك الحالة التى عندما يصل إليها المرء فإنه يكون فى أفضل حالاته، ويكون من ثم قادرا على الانطلاق فى الفعل وفى الإنتاج . والذى يأتى بدون أدنى شك فعلا إبداعيا وإنتاجا متميزا.
الإبداع إذن ليس مجرد إنتاج يأتى هكذا إلى الواقع بقوة سحرية مجهولة لنا، أو من خلال إلهام غيبى لا يدرى عنه المبدع شيئا، وهو كذلك لا يتحقق بمجرد الرغبة أو الدافع أو النية، ولا هو يتم لأن المبدع شخص يتمتع بقوى عقلية (تقليدية وإبداعية متفوقة) كلا، فإن الإبداع لكى يتحقق لابد أن يتم من خلال فعل، تتوافر له خصائص ذهنية متنوعة، ووجدانية مستقرة، وجمالية متمرسة، وثقافية اجتماعية عميقة ..
وربما كان البعد الرابع الخاص بالجانب الثقافى الاجتماعى هو الذى يمثل أهمية خاصة بالنسبة لحديثنا الحالى...
أوردنا فيما سبق أن المبدع الذى ينجز عملا من الأعمال هو فرد (وقد يكون الإبداع جماعيا أيضا) ولكن الشائع عموما أن شرارة الإبداع تنطلق عادة من خلال فعل فردى حر، يمكن أن يمثل مع غيره من أفعال أخرى ظاهرة اجتماعية تتحقق من خلال جماعة تعيش معا وتعمل معا، أو يكون لها هدف واحد تسعى إلى تحقيقه ،هدف متعدد الأبعاد والعناصر والطرق والروافد، ولكنه مع ذلك فعل.. يمضى نحو هدف.. قد يشترك فى أدائه كثيرون وقد تكون مساراتهم متنوعة، ولكنهم جميعا، وبشكل شعورى أو لا شعورى يتقدمون غاية واحدة ....
ولكى يكون كلامنا محددا ومتعلقا بواقع ملموس .. ربما كان من المناسب الإشارة إلى واقع يعيشه العالم حاليا فى مواجهة مع دول شرق آسيا واليابان على سبيل التحدي ..... فالشعب اليابانى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يمضى نحو غاية محددة هى إثبات الجدارة والتفوق، والأمر العجيب أن الولايات المتحدة عدو الأمس وحليف اليوم والتى مازالت تهيمن من الناحية العسكرية والسياسية على اليابان هى التى دفعت بتلك القوة الكامنة فى الشعب اليابانى إلى النمو والانطلاق من خلال النسق الأمريكى فى التفكير والحياة، ولكن العملاق اليابانى الذى مضى فى الطريق الذى رسم له، لم يتخل عن قيمه أو ثقافته؛  ولكنه أخذ من الثقافة الوافدة ما يفيده ،ويدفع عجلة النمو لديه، وظل محافظا على القيم اليابانية الأصيلة، تلك القيم المتعددة التى تربط فيما بينها فى منظومة واحدة يمكن أن تلتقى حول خيط واحد، ذلك الخيط هو خيط الجدية والالتزام والفعل الموجه نحو هدف، والميل إلى التعلم واكتساب الخبرة وتقديس الوقت ... وكلها كما نلاحظ مفردات فى منظومة تتعامل مع المستقبل المنبثق من الحاضر والمرتكز على تاريخ ممتد إلى الوراء لمئات وربما لآلاف السنين ... ومن ثم يمكن أن نصدق مقولة الوراثة الثقافية التى يتشربها الوليد منذ قدومه إلى هذه الحياة، وتتأصل فى أعمق أعماقه إلى الدرجة التى يظن فيها الدارسون أنها موروثة وراثة بيولوجية وهى بالفعل ليست كذلك، ولكنها الوراثة الاجتماعية الثقافية الواعية التى تحدث عنها "توفيق الحكيم" فى كتابه الرائع "عودة الروح" تلك الروح التى يمتلكها الفلاح (أو الإنسان) المصرى، وهى روح تبلورت وتركزت وانصهرت على مدى آلاف السنين .. صقلها الزمن، وركزها التاريخ وبلورها الوعى المتدفق والمستمر لدى هذا الإنسان المصرى الذى ظل محافظا على واقعه لآلاف السنين.
عموما فإن النموذج الذى نفترضه أساسا لتفسير السلوك الإبداعى والذى يأخذ شكل مكعب ذى ثلاثة طوابق وأربعة أبعاد، نموذج أثبت واقعيته وصدقه عبر العديد من الدراسات التى اختبرت كفاءته.
 
2- الإبداع والمستقبل:
      وإذا ما كنا نعطى أهمية خاصة للجانب الثقافى الاجتماعى فذلك لأن الإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا تعلق بقضية اجتماعية لها أهميتها. صحيح أن كثيرا من المبدعين يصلون إلى إنجازاتهم الإبداعية وهم لا يخططون لأى تعامل مع المستقبل، ولكن هذا فى الواقع مجرد وهم يتصوره بعض السذج من الناس، "إقليدس" مخترع الهندسة التقليدية، "فيثاغورث"  صاحب النظريات الهندسية. و"أرشميدس" صاحب قانون الطفو، "أينشتين" صاحب نظرية النسبية، "نيوتن" صاحب القوانين الرياضية المشهورة، و"الخوارزمى" صاحب الجبر والمقابلة، و"الحسن بن الهيثم" صاحب النظريات الذائعة الصيت فى مجال المناظير وعلم الطبيعة الضوئية والعدسات وغيرها، و"جابر بن حيان" صاحب الإسهامات الرائدة فى مجال الكيمياء ..... وآخرون غيرهم ربما لم يتذكرهم التاريخ بكلمة واحدة لأنهم عملوا وقدموا نتائج أعمالهم للمجتمع أو لأفراد آخرين تلقفوها عنهم وطوروها ونسبوها إلى أنفسهم.
أقول: هؤلاء جميعا وإن لم يكن باديا فى لحظة من اللحظات أنهم يتعاملون مع الواقع، ويسعون نحو المستقبل إلا أن واقع الأمر يؤكد أن التعامل مع الواقع لا يأتى بالإعلان والإعلام والدعاية، فالمبدع هو فى الواقع شخص يسعى إلى تجاوز اللحظة الراهنة، وقد يكون هذا التجاوز بالعودة عما هو واقع الآن، وما هو موروث من الأسلاف، وقد يكون مجرد رفض للواقع الراهن والبحث عن بديل، وقد يكون بديلا جديدا غير موجود الآن ولم يكن موجودًا من قبل، أو قد يكون بديلا معروفا للسابقين ويتصور المبدع أنه بديل مناسب بالرجوع إليه قد يجد فيه ما يتعامل مع معطيات الحياة المعاصرة.
     عموما يمكن القول، إن المبدع يحمل إطارا مرجعيا من القيم يتخذ لنفسه نسقا متدرجا تقف على قمته قيمة حاكمة،  تلك القيمة قد تكون قيمة العبور والتجاوز و"الترانستنتالية" وقد تكون قيمة أخرى، ولكن الأمر المؤكد أن قيمة التجاوز والعبور و"الترانستنتالية" هى من أهم القيم التى تشكل محور ارتكاز أساسى لدى الإنسان ولدى المجتمع المبدع (كذلك المجتمع اليابانى الذى سبقت الإشارة إليه من قبل) ... وتلك القيمة الحاكمة أو تلك القيمة المحورية هى فى واقع الأمر قيمة تتعامل مع الواقع الثقافى والاجتماعى والسياسى ... وصاحبها يعلم أنه إن لم يستطع أن يقنع الآخرين بما يبشر به فإنه مقضى عليه بالعزلة، ومطالب بالانعزال ،وقد يحدث له هذا بالفعل ويجد نفسه فى لحظة من اللحظات مطاردا بسبب جرأته ورغبته فى التغيير، ولكنه مع ذلك إن كان صادقا مع نفسه، راغبا فى العطاء، قادرا على المواصلة والاستمرار وعدم الخضوع للتهديد أو الابتزاز أو ذل الحاجة والسؤال ،فإنه سوف يصمد ويعبر، ويتخذ صموده وصبره أشكالا وقوالب عدة ولكنه فى النهاية يجد أنه قد انتصر على غرمائه الذين بعد مدة يكونون فى العادة هم أول مهنئيه وآخر من يناوئونه أو يحملون عليه.
المبدع إذن إنسان يسعى إلى المستقبل سواء تم هذا بوعى منه أو بدون وعى. إ نه لا يرضى عما هو واقع ولا يقنع بما هو متداول و إلا ما سعى إلى أن يبتكر شيئا جديدا، وهذه هى أول خاصية من خصائص الإبداع (السعى إلى الجديد، والبحث عما هو غير متوافر حاليا) وبالتالى فإن البحث عن الجديد والمبتكر هو فى حقيقته تعامل ينبثق من رحم الغيب، وقدرة المبدع على قراءة ما هو مخطوط فى سجل الغيب هو ما يميزه عن سائر خلق الله.
التنبؤ والمستقبل
ولقد وجد جليفورد فى العديد من دراساته التى راح يجريها وينشرها اعتبارا من سنة 1950 منذ ألقى خطابه الرئاسى بمناسبة تنصيبه رئيسا لجمعية علم النفس الأمريكية، وجد أن الاستبصار والتنبؤ من أهم الخصائص التى تميز الإنسان المبدع الذى لا يعمل فى فراغ ولا يتعامل مع الصدفة، ولكنه غالبا ما يعمل من خلال نسق، وفى إطار خطة. وتلك الخطة وذلك النسق يمدانه فى العادة بخطوط النسيج الذى من خلال نسجه له يعتمد على علاقات لم تكن متوافرة من قبل، ولكن مضيه إلى الأمام يحقق له واقعا جديدا، صحيح أنه يكون قادرا على التنبؤ بشكله العام، ولكنه مع التقدم تتبلور العناصر والمعطيات ومع تراكماته المتحققه تكتسب العناصر والمعطيات دلالات مستقبلية تدفع المبدع إلى المزيد من العمل فى اتجاه بناء العناصر فى أطر جديدة تكتسب ملامح جديدة، وما يزال المبدع عاكفا عليها مجودا لها إلى أن يصل البناء إلى أقصى ما تمكنه طاقته وجهده من تقديمه ...
هذه هى حركة المبدع وهذا هو واقعه؛ إنسان لا يقتنع بالأمر الواقع وهو راغب دائما فى الرحيل مع الأيام ناظر إلى الأمام، مستبشر بأن ما هو قادم أفضل مما هو قائم، ومستبصر بالعلاقات بين العناصر والجزئيات التى تتبلور فى معطى كلى متماسك غير منفصل ...
والرحيل إلى المستقبل ليس مجرد رغبة أو دافع يدفع حركة المبدع، ولكنه إحدى السمات البارزة أو الاستعدادات الجوهرية فى المنظومة الإبداعية ولعل ما توصل إليه الدكتور مصطفى سويف منذ أواخر الخمسينيات أطلق عليه اسم مواصلة الاتجاه كأحد أهم القدرات الإبداعية التى لم يلتفت إليها جيلفورد فى بنائه أو فى نموذجه الإبداعى، أقول لعل هذا البعد النفسى الذى أشار إليه سويف، وعكف على بلورته عدد من تلاميذه مما يمكن أن يكون ملمحا من ملامح الرحيل إلى الغد فى سياق مواصلة الجهد والاحتفاظ بالاتجاه ... ولعل أهم خاصية لتلك الجزئية التى أطلقنا عليها اسم (مواصلة الاتجاه) أنها تتعامل مع الزمن فى سياق الفعل الإبداعى أو الأداء الفعال...  فالمبدع صاحب عقل متحضر دائما وطاقة معطاة وشخصية متحركة  دينامية، إنه لا يتوقف عن التفكير ولا يكف عن التخيل ولا يستكين للعجز ولا يقنع بما هو متاح .. إنه باحث دائما عن الجديد ساع باستمرار إلى تجاوز اللحظة الراهنة، راغب وبإلحاح فى اقتناص الشوارد واختزالها فى قبضته، وصهرها فى بوتقة فاعليته، واعتصارها بحيث تتحول إلى قطرة تروى غلته المتعطشة إلى الإبداع والتجديد. وفى مسيرة العطاء والبذل، لا يشعر المبدع بالإرهاق ولا يحس بالعجز ولا يعى بالمحبطات أو المعوقات إنه يسبح فى بحر لجى متلاطم الأمواج، وهو قادر على أن يرى الشاطئ من بعيد، ولا يأبه للحيتان أو أسماك القرش أو الأنواء والعواصف التى تهدد مسيرة عطائه ... فهو سباح ماهر ومقاتل جسور، وقائد متمرس على مواجهة مثل تلك العواصف والأنواء والأعاصير، يقفز فوقها ويسبح فى غمارها ولا يتوقف أبدا إلى أن يصل إلى غايته ويحقق هدفه مهما طالت به الأيام وتكالبت عليه الخطوب.
هذا هو المبدع. إنسان يسعى إلى الغد ويتعامل مع المستقبل، ويتسلح بعقل أهم ما يميزه تلك القدرة المركبة، قدرة مواصلة الاتجاه أى الرحيل مع المبدع إلى القادم مع الأيام، قافزة فوق العقبات متجاوزة به المستحيل، بحثا عن يوم جديد خال من القصور والعجز والإحباط، ولكن هل يمكن أن يتم ذلك فى مناخ مقيد للحرية محبط للقدرة، مناوئ للتقدم .... هذا، سوف نلمسه فيما يلى من سطور .....
3-الإبداع والحرية
سئل نجيب محفوظ يوما عن السبب الذى جعل حقبة الستينيات ثرية بالإبداع،على حين أن حقبة السبعينيات لم تكن على هذا النحو على الرغم من أن مناخ الستينيات كان مناخا أقل حرية من مناخ السبعينيات.قال نجيب محفوظ ما معناه أن المبدعين فى الستينيات كانت لديهم كلمة يرغبون فى قولها ولم تكن الظروف السياسية تتيح لهم التعبير عن أفكارهم تعبيرا مباشرا، ولذلك كانوا يلجأون إلى أن يقولوا آراءهم وأفكارهم ويناقشون قضاياهم من خلال الأداء الإبداعى، ولذلك قلت مساحة التعبير المباشر الناقد للأداء السلطوى فى شكل مقالات أو أحاديث وازدادت مساحة التعبير الإبداعى الذى يغلف القضايا فى إطار الفن الذى من الصعب محاكمة صاحبه لأنه لا تحدث مباشرة إلى الحاكم ولا يتوجه بخطابه مباشرة إلى من ينقده. حدث هذا من عبد الرحمن الشرقاوى فى "الفتى مهران"  ومن يوسف إدريس فى "النداهة".. وغيرها ومن نجيب محفوظ فى  "اللص والكلاب" و"ميرامار" .. الخ .. أما فى السبعينيات فقد ترك الحاكم الناس يتحدثون بما يشاءون فالحديث ليس بذى أذى، ولن يضر أحدا، المهم ألا يتجاوز الشخص حدود الحديث أو القول إلى تخوم الفعل .. ولتكن المعارضة على مستوى الفكر وحسب ... ومن ثم وجد الناس أنهم يقولون كل ما يفكرون فيه مباشرة ودون ما حاجة إلى وسيط فنى أو دون اللجوء إلى الرمز المنبث فى عمل من أعمال الفن أو الإبداع، وبالتالى هدأت أو ركدت الحركة الفنية، وتوقفت عطاءات المبدعين، لأن كل ما هو مطلوب قوله يقال مباشرة، وفقد المبدعون حماسهم للإبداع والتعبير بالفن ...الخ (انظر لنا مسيرة عبقرية، 1994 ص26).
هذه هى المعانى التى عبر عنها نجيب محفوظ عندما كان يتحدث عن السبب الذى من أجله تفوق الإبداع فى الستينيات بينما توقفت الحركة الإبداعية إلى حد ما فى السبعينيات، وربما كان الحديث فيه قدراّ من المبالغة ولكن الأمر المؤكد أن الإنسان يتفاعل دائما مع الواقع يتأثر به ويؤثر فيه. وبصرف النظر عن وجهه نظر نجيب محفوظ التى لها ظل من الحقيقة إلا أن مناخ الحرية هو المناخ الذى يسمح بالإبداع، وأما الحديث عن أن هذا المناخ يساعد على الاسترخاء وعدم الحاجة إلى الإبداع، فهو وإن كان يصدق على بعض الظروف الاستثنائية كفعل مضاد ولظروف سياسية أو اجتماعية استثنائية، إلا أنه لا يصدق على ظروف المجتمع المستديمة، حتى أولئك الذين وجدوا أنفسهم ينقدون الحاكم مباشرة فى مناخ السبعينيات وجد بجوارهم كثيرون أبدعوا فى كثير من المجالات وحاولوا أن يعبروا عن أفكارهم وأن يقدموا رؤاهم مخاطبين المستقبل ساعين إلى الغد، حتى فى ظل المناخ الذى رأى فيه نجيب محفوظ أنه مناخ حرية، ولكنه لأنه كذلك كف جذوة الإبداع الذى من أول سماته التحدى والانطلاق عبر الرموز. عموما هذه قضية أخرى تحتاج إلى مناقشة مستفيضة فى سياق آخر، أما ما يهمنا الآن فهو الإشارة إلى أن فعل الإبداع يحتاج إلى الممارسة الحرة، أى أن المبدع وهو إنسان يؤمن بالحرية ويدافع عنها وقد يموت فى سبيلها ،هذا المبدع لا يستطيع أن يبدع إلا إذا حرر عقله من كافة القيود وتجاوز كافة العقبات، سواء كانت هذه القيود عقائدية أو سلطوية أو نفسية ... وفى تلك الحالة النفسية عندما تتحقق له حالة الحرية Freedom State  سوف ينبثق وعلى الفور من رحم تلك الحالة النفسية الفردية موقف الحرية Freedom Situation ، ذلك الموقف الذى نجد المبدع من خلاله طائرا محلقا فى آفاق الحلم السعيدة، على نحو ما وجد مايكل أنجلو نفسه على قمة الجبل، وهو هارب من البابا بعد عجزه من تنفيذ المهام الفنية التى كان مكلفا بإنجازها ... وجد مايكل أنجلو نفسه وقد تحرر من عبء السلطة وتخلص من رق الانضغاط ونظر إلى السماء وحلق بخياله فيما رأى؟ إنه الحلم المستحيل، قبس من رحمة الله به ... الكورس السماوى يغنى إنه الحلم الإبداعى الذى كان يبحث عنه ولم يجده تحت سقف الكنيسة ولا فى ظل عصا البابا التى كانت تطارده، وعندما هرب وتحرر وجد نفسه وجها لوجه أمام حلمه الجميل، وعاد من فوره إلى العمل فى الكنيسة وفى زمن قياسى أنجز اللوحة الخالدة التى مازالت حتى الآن تزين سقف الكنيسة ... إنها المولود الذى ولد من رحم الحرية التى سعى إليها مايكل انجلو...
إذن فالحرية ليس من الضرورى أن تكون حرية الطعام والشراب والنعمة التى لا تعد ولا تحصى، بل إن الحرية قد لا تكون أكثر من مجرد اقتناع ورغبة من الداخل ودافع إلى العمل وانطلاق إلى التجويد، كل ذلك على المستوى النفسى الفردى، كتلك الحرية الرواقية التى تحدث عنها "كريزميبوس" و"مارك أوريل" إنها حرية الضمير وتحرر الوجدان والإقناع الداخلى بأن الإنسان يملك إرادته وأنه مهما كانت الضغوط التى تمارس عليه فإن عليه دائما أن يكون قادرا على الاحتفاظ بوعيه متوحدا مع ذاته غير خاضع لتهديد خارجى أو تأثير من الآخرين...
4- الإبداع والمغامرة
أشرنا من قبل إلى أن أهم خاصية تميز السلوك الإبداعى هى سعيه إلى عبور اللحظة الراهنة بالتغيير من أجل الانطلاق إلى المستقبل. وذكرنا أيضا أن المبدع شخص يعيش فى جماعة وأنه دائما مهموم بهموم جماعته وأنه مستعد دائما لأن يقدم حياته ثمنا لتطوير واقع جماعته إلى ما هو أفضل. كذلك ذكرنا أن هذا كله لا يمكن أن يتم إلا من خلال فعل حر أو تفكير حر يعبر عنه المبدع فى سلوك متحرر من أى ضغوط، والناتج بالطبع لن يكون دعوة إلى الهزيمة أو سعيا إلى الرذيلة، ولكن الواقع المتحقق من خلال ممارسة فعل الإبداع هو نموذج للفضيلة وتجاوز للعجز والإحباط والقصور من أجل صالح الإنسان الذى سوف يأتى فى الزمن القادم من بعيد ...
إذن ففعل الإبداع لابد أن يتحقق من خلال إنسان مبدع يسعى إلى الجديد، إنسان يتعامل مع المستقبل بكل ما فيه من غموض ومجاهيل متسلحا بقيمة حاكمة هى قيمة الحرية التى تحمل على جناحيها طاقة الإنسان التى مازالت حتى الآن حبيسة فى معظمها ولن تتحرر إلا إذا ما رغب صاحبها فى الانطلاق بها بعيدا رغم كل المحبطات ...أجل إن الحرية المتاحة مهما كانت هامشا ضئيلا فى ضمير الإنسان ووعيه إلا أنها كفيلة بأن تقود خطى صاحبها فى سراديب المجهول .. صحيح أن هذا المجهول غير ملموس ولا معروف لدى المبدع، ولكنه لأنه مبدع فهو قادر بدرجة أو بأخرى على التنبؤ والغوص فى ذلك البحر العميق القاع، أو ذلك الأفق الملبد بالغيوم ... من هنا كانت عظمة الإبداع، إنه سعى دائم وراء المجهول، وانطلاق مستمر نحو الغيب، وضرب فى الأفق العريض الذى لا تبين له حدود ... والمبدع مستعد كما ذكرنا لأن يقامر ويجازف ويخاطر ... وقد وجد أن معظم المبدعين يتميزون بتلك السمة سمة المغامرة المحسوبة، ليست مغامرة متصلبة أو لا مبالية، بل هى مغامرة محسوبة تماما، وفرق بين هذا النوع من المغامرة والنوع الآخر الذى يوصف بالحماقة، فالمبدع من أهم ما يميزه كما ذكر جيلفورد شخص يسعى دائما إلى العمل فى مناخ تخطيطى، متسلحا بوعى وتبصر لما هو قادم وما هو متاح من عناصر الوجود الحالي (Guilfords, 1979, 108-109. حنورة، 1990، ص239، مصطفى سويف، 1970) وإذن فإن هذا المبدع كالسباح الذى يعوم فى بحر متلاطم الأمواج ربما ملبد بالسحب والغيوم فى ليلة دامسة الظلام مكفهرة المناخ ... ولكنه مع ذلك صاحب بوصلة عقلية تتيح له أن يسبح فى هذا الواقع المعقد ببراعة يتجه إلى الشاطئ الذى يسعى إليه دون ما أدنى تردد أو خوف أو عجز عن الوصول، وهو واصل لا محالة إلى شاطئه المرتجى والذى لم يغب عن بصيرته لحظة من اللحظات.
والمغامرة سمة يحتاج إليها باحثون كثيرون باعتبارها السمة الجوهرية التى تجعل المبدع راغبا دائما فى تجاوز الواقع الراهن ومستعدا للمجازفة بالفعل الحر من أجل التغيير .. وربما يظن بعض الناس أن المبدع ليس محتاجا إلى أن يكون مغامرا، فكثير من المبدعين يميلون إلى العزلة ويفضلون الانطواء ولا يجاهرون بآرائهم بشكل مباشر، بل إن هناك من يذهب إلى أن المبدع يلجأ إلى الإبداع  كى يعيش فى حالة سلام مع العالم وليس فى حالة صراع علنى ومباشر، إن إبداعه سلوك تعويضى  يعوض به رغبته فى الصراخ فى وجه هذا العالم، وهو حين لا يستطيع أن يفعل ذلك فإنه يلجأ عادة إلى أبراجه العاجية يعيش فيها، يتأمل ويتخيل ويفكر، ويفرز بعض إفرازات هى ناتجه الإبداعى بعيدا عن المغامرة والمجازفة والمخاطرة ... وقد يدفع بها إلى الآخرين، وقد لا يدفع بها إنه أفرز عصارة فكره وخياله وجهده فى وسيط خاص به هو شخصيا قد يتيحه للآخرين وقد لا يحدث ذلك، ويظل الأمر سرا بينه وبين نفسه إلى ما لا يعلمه إلا الله...
هذه وجهة نظر ربما تكون صحيحة من بعض جوانبها ولكنها بكاملها لا تتفق مع الحقيقة تماما .. فالمبدع فعلا يلجأ إلى العزلة ولكنه دائما مغامر ... والمغامرة التى نشير إليها فى هذا السياق ليس من الضرورى أن تكون مغامرة اجتماعية أى لها وجهها السياسى الاجتماعى، فقد تكون مغامرته على مستوى الفكر ... بمعنى أن ما يبدعه هو صيحة فى وجه المجاراة وقفزة على ما هو قائم من أنماط فكرية سائدة، فمن يخترع جهازا جديدا للاتصالات البعيدة إنسان يغامر بالفكرة، وقد ينجح وقد يفشل وقد ينفق الوقت والجهد والمال وربما سمعته العلمية إذا لم يوفق فيما تصور أنه إنجاز جديد .. والشاعر الذى يكتب قصيدة تحمل رؤى- جديدة ومضامين مبتكرة وصورا لم يسبق إليها إنسان، شخص يغامر، وربما يحتاج إلى أن يخوض معركة رهيبة وقاسية أولا مع نفسه لكى يقنعها بأن تتخلى عن محافظتها وعجزها ونفورها، ثم بعد ذلك مع عقله كل يجبره على ارتياد الآفاق الجديدة والفيافى البكر والمفازات البعيدة، ثم بعد ذلك مع إرادته لكى تتحول بكل ذلك إلى واقع أدائى فعال ... وفى كل مرحلة من هذه المراحل يبذل المبدع فوق طاقته عناء ومعاناة ومكابدة إلى أن يتحقق له ذلك الواقع الإبداعى الملموس الذى يتحرك فيه بيسر وسهولة وسلاسة ... وهذا الجهد الذى يبذله صاحبنا مغامرة .. من الألف إلى الياء. والمغامرة هنا هى جهد مع النفس والعقل والإرادة ثم مع الآخرين الذين يقفون فى انتظار الخطوة التالية للمبدع فإما أن يتلقفوه بالأحضان وإما أن يتلقوه باللعنات ... وهو مع ذلك راغب فى أن يلقاهم دائما بصرف النظر عن النتائج التى سوف تتحقق منه أو به أو معهم سواء بسواء ....
عموما فمن الضرورى فى هذا السياق الإشارة إلى أن الإبداع مرتبط بالسعى نحو العديد ،هو تجاوز الواقع الراهن، ولكن لكى نبدع فلابد أن نكون قادرين على الاختيار من بين العديد من العناصر، وهذا الاختيار يعنى الحرية ويعنى فى نفس الوقت الرغبة فى التجديد، وهو أيضا ما يشير إلى أن الاختيار يحتاج إلى مغامرة لأن الاختيار ليس اختيارا من بين أمرين مقطوع بصحة أحدهما وخطأ الآخر، و إلا ما كان إبداعا، وكان بالأحرى سلوكا تقليديا، فالاختيار عند المبدعين يختلف عنه عند الأذكياء التقليديين ... الذكاء التقليدى فيما يرى البعض هو تعامل مع معطيات ومسائل، لكل مسألة حل واحد صحيح، أما الذكاء الإبداعى فإنه يتعامل مع معطيات ومسائل لكل منها ألف حل ... أى أنه يتعامل فى نسق مفتوحOpen or Unclosed System  بعكس الذكاء التقليدي الذى يتعامل فى نسق مغلق Closed System  .... وهو الأمر الذى يتطلب من المبدع الذى يفكر تفكيرا إبداعيا أن يتعامل مع العديد من الاحتمالات، وتلك الاحتمالات أمور غير متيقن من صحتها. الأمر الذى يجعل المغامرة أمرا واردا ومطلوبا .المبدع إنسان مغامر إذن، وهو يغامر مغامرة محسوبة، ومغامرة ذات حدود وتلك الحدود هى التى تجعل العناصر المنتقاه ذات خصائص وظيفية وبنائية قادرة على أن تلتحم مع بعضها البعض لتقدم كلا متكاملا وليس مجرد ذرات وجزيئات لا رابط بينها ... هنا لابد أن يكون المبدع متسلحا بخيال بناء ... خيال لا يحلم حلم يقظة يقفز من أفق إلى أفق ومن محيط إلى محيط. إنه الخيال الذى "يلضم" الخيوط معا فى نسج جديد متماسك له وظيفة وهدف وغاية وإهاب جميل ... نسيج يجعل من يتلقاه يقول "الله !!" تعبيرا عن الروعة والاندهاش، ولأنه نسيج جديد فهو يحظى بالقبول والاستحسان ويحس من يتلقاه أنه وقع على بغيته التى تسد حاجته وتحقق له أملا كان مفقودا ... وفى تلك اللحظة يرتد العائد إلى المبدع فيظل على علاقة إيجابية بذلك الطرف الآخر الذى يعطيه الإحساس بأنه لا يعيش وحده فى عالم معزول، بل هو جزء من كل خيط فى نسيج ... ويكتشف أن مغامرته كانت مغامرة ناجحة وأن خياله كان خيالا بناء وليس مجرد حلم يقظة فى ليلة صيف أو فى نهار شتاء...
الإبداع وتدريبه
الإنسان حيوان مبدع، ذلك أن الإنسان منذ ميلاده لديه دافع للمعرفة والتعلم ودافع للاكتشاف ودافع للإنجاز ... صحيح أن هذه الدوافع ليست من قبيل الدوافع الأولية البيولوجية الفطرية، ولكن ظهورها منذ بدء حياة الإنسان بعد الميلاد .. توحى بأنها ترتبط باستعدادات ولد بها الإنسان ليس هنا مجال الخوض فيها ... ولكن بحسبنا أن نشير إلى أن الوليد مع تقدم الأيام يحاول أن يجرب كل ما تصل يداه إليه، وهو دائم الدهشة لكل ما يقع على حواسه من مثيرات، وهو دائم المحاولة فى التعامل مع تلك المثيرات ... ويوما بعد يوم تتأصل فى نفسه الحياة إلى المعرفة والرغبة فى الاكتشاف، ولكنه مع ذلك لا يقوم بكل ما يقوم به إلا إذا وجد تشجيعا من البيئة، تلك البيئة التى قد تكون بيئة ميسرة محفزة ومنفتحة، وقد تكون بيئة جامدة صلبه محبطة مانعة لا تسمح للطفل بالمغامرة أو المجازفة،وتحد من حريته فى الانطلاق والتجديد ... إذن فالفرد لديه استعداد للاكتشاف، والبيئة قد تساعده على ذلك، وقد تكفه وتمنعه وتعوق رغبته فى الانطلاق...
وقد أدركت البشرية منذ القدم حاجة الإنسان إلى الرعاية والدفع بقدراته نحو النمو والازدهار .. ومن يقرأ الأودسة والألياذة سيجد مثلا أن أوديسيوس حين خرج إلى الحرب، ترك زوجته وابنه تليماخوس الصغير فى رعاية منتور Mentees  الذى قام له بدور الراعى الحكيم المعلم الموجه الآخذ بيده دائما إلى الطريق القويم والذى كان يمثل بالنسبة له السياج الواقى الذى يحميه من أى عدوان وأى إحباط. ومرت الأيام وإذا بنا نفاجأ منذ عدد محدود من السنين مع بداية الستينيات بنشأة اتجاه فى علم النفس للرعاية والحماية ولتنشيط الإبداع أطلق عليه المنتورية Mentorism  نسبة إلى منتور بما يمثله هذا الرجل من قدرة فذة على رعاية الإبداع عند الأفراد الذين يحتاجون إلى تلك الحماية . Torrance, 1984))
و"المنتورية كأسلوب لرعاية الإبداع تعتمد أساسا على مبدأ أساسى فتربية وتنشئة الاستعدادات البشرية مؤداه أن تلك الاستعدادات موجودة كطاقة كامنة عند معظم البشر، ولكنها تظل كاستعدادات ما لم تجد الوسيلة إلى التحقق فى شكل قدرات مدربة وخبيرة و"المنتور" يقوم ضمن أدوار كثيرة ينهض بها بمهمة رعاية الموهبة وتدريب الاستعدادات الإبداعية عند من يتولى رعايتهم أو من يطلق عليهم Mentees أى القابلين للرعاية المنتورية .. وقد اهتم بهذا الأسلوب فى الرعاية باحثون متميزون فى مجال الإبداع لعل من أبرزهم العالم النفسى الأمريكى أى  بول تورانس E. Paul Torrance  الذى أجرى العديد من الأبحاث هو تلاميذه حول طبيعة تلك العلاقة المنتورية وكيفية استثمارها وخصائص المنتور والحدود التى يتعامل من خلالها مع صاحبنا التلميذ المحتاج إلى الرعاية ... (Torrance, 1984)  
ومن أبرز خصائص المنتور أنه شخص لديه المعرفة والعلم ولديه الحكمة والبصيرة، ولديه التسامح والديمقراطية، ولديه الإيجابية والاحتواء وهو مستعد دائما للعطاء بسخاء، وقادر دائما على جذب الاتباع وجذب الانتباه، وهو لا يكف عن البحث والتنقيب ويلعب دور القدوة والنموذج بالنسبة لتلاميذه ومريديه، وهو يلجأ فى بعض الأحيان إلى الصرامة والقطيعة فى تقويم اعوجاج سلوك تلاميذه الذين يبدأ معهم عادة بالحكمة والموعظة الحسنة (حنورة، 1992).
ولعله من المناسب فى هذا المقام الإشارة إلى أن التراث الإسلامى والعربى يحمل فى طياته نماذج لتطبيق هذا الأسلوب لدى من عرفوا باسم المؤدبين الذين كان الحكام فى الدولة الإسلامية (بداية من الدولة الأموية ومرورا بالدولة العباسية) يعهدون إليهم برعاية أبنائهم وتدريبهم والأخذ بأيديهم وتقويم اعوجاج سلوكهم .. والإمام أبو حامد الغزالى واحد من الذين أشاروا فى أكثر من عمل من أعماله إلى ضرورة الرعاية للناشئة بأسس لا تختلف عن تلك الأسس والمبادئ التى أشارت إليها الدراسات الحديثة، و من أبرز كتبه فى هذا المجال كتابه الصغير والذى عنوانه (أيها الولد) (1983).
والعلاقة المنتورية هى علاقة شخصية غالبا أى لا تأخذ شكل العلاقات الرسمية ذات الحدود الباردة الجامدة، إنها علاقة صميمة فيها حب ومودة وتراحم .. كتلك العلاقة التى نشأت مثلا بين الشيخ المرصفى وطه حسين، ذلك الشيخ الذى تعلم منه طه حسين ليس فحسب العلم والفكر والثقافة ولكن المعاملة الإنسانية والتسامح والحب والعطاء وإنكار الذات، وهو ما مارسه طه حسين مع تلاميذه من أمثال سهير القلماوى التى أقرت فى كتاباتها عن الراحل العظيم أنه كان بالنسبة لها نعم المنتور الراعي الصالح المتفهم القادر على قراءة معاناتها والقادر أيضا على تذليل تلك الصعاب والدفع بها دائما إلى الطريق المفتوح.
وليست المنتورية هى وحدها الأسلوب الأمثل لتدريب ورعاية الإبداع، فهناك أساليب متنوعة تختصر المسافات وتوفر الجهد وتصل بالطاقة الإبداعية الحبيسة إلى أقصى فاعلية لها فى وقت يسير وبجهد بسيط وبتكاليف معقولة؛ لعل من أبرزها أسلوب القصف الذهنى Brain Storming ذلك الأسلوب الذى تم استخدامه على نطاق واسع منذ ثلاثينيات هذا القرن عندما اكتشفه العالم النفسى الأمريكىAlex Osborn (1965)  ونشر عنه كتابه المشهور  Applied Imaginationوتوالت بعد هذا الكتاب جهود أوزبورن وتلاميذه فى وضع قواعد ومبادئ هذا الأسلوب. والتى تتلخص فى أن الإبداع يمكن تدريبه من خلال تكوين جماعة صغيرة  Small Groupلها رئيس يطلب منها حل إحدى المشكلات من خلال قيام كل فرد بطرح حل واحد للمشكلة تبعه الشخص الذى يليه بطرح فكرة أخرى وهكذا إلى أن ينتهى جميع أفراد الجماعة من طرح ما لديهم من أفكار فى إطار من التسامح والحرية وعدم النقد أو المقاطعة أو التكرار مع السماح بالبناء على ما طرحه الآخرون من أفكار ... يتم هذا كله فى جلسة مدتها حوالى نصف ساعة أو ثلاثة أرباع ساعة، تلى ذلك جلسة أخرى يتاح فيها الفرصة لتقويم ونقد هذه الأفكار يبقى منها على ما هو جيد ويستبعد ما ليس كذلك ... وفى هذا الإطار المتسامح تزول الخشية ويختفى الخجل وتنطلق الألسنة وتتحرر العقول .. وهو الأمر الذى يخدم  هدفين:
1-     تدريب الإبداع وتنشيط الخيال عند هؤلاء الأفراد.
2-     الوصول إلى أفكار إبداعية لحل المشكلات المطروحة..
وقد تم تجريب هذا الأسلوب فى مصر فى دراسات قمنا بها وتوصلنا منها إلى حلول أصيلة للقضاء مثلا على مشكلة الأمية فى مصر.. وكذلك لتدريب الإبداع عند جماعات الدراسة (مصرى حنورة، 1979).
وكما هو واضح فإن تدريب الإبداع بهذا الأسلوب يتم فى بساطة وبدون جهد كبير وبدون تكاليف تقريبا وفى أقصر فترة ممكنة، فربما لا يحتاج تنفيذ الدورة لأكثر من عشر جلسات تتم على مدى (ثلاثة) أسابيع بعدها نلمس وبوضوح أن الفرد قد انطلقت لديه طاقة الإبداع وأصبح متمرسا على تحرير الخيال والانطلاق بإمكانيات العقل إلى أقصى طاقاتها عندما يرغب فى ذلك ..
وحين نتحدث عن تدريب الإبداع، فإننا نركز على الانتباه على أهمية هذا التدريب خاصة وأننا نحمل جميعا تلك الاستعدادات المعروفة باسم الاستعدادات الإبداعية، ولكننا غالبا لا نلجأ إلى استخدامها إما كسلا أو ابتعادا عن المجازفة وتجنبا للتجديد. ولكن من خلال التشجيع والرعاية والدفع بالإنسان إلى الممارسة الإبداعية نستطيع أن نساعد الفرد على اكتساب الرغبة والميل والحاجة إلى أن يكون كائنا مبدعا على الحقيقة وليس على سبيل المجاز ... وهو الأمر الذى وضح لنا أنه ممكن وأنه مطلوب أيضا كحاجة ملحة للنمو المتوافق عند الإنسان الفرد وكحاجة ملحة للنمو الإنسانى على مستوى الفرد داخل جماعته وكحاجة ملحة لتعامل الجماعة والمجتمع والمستقبل الذى يحمل معه كل يوم معطيات جديدة عويصة ومشكلات معقدة تحتاج دائما فى معالجتها إلى خيال متأجج وفكر متوقد وعقل منفتح دائما ومستعد أبدا للتعامل مع مثل تلك المعطيات...
خاتمة ...
تحدثنا فى الصفحات السابقة عن الإبداع فى علاقته بالمستقبل، وقد أشرنا فى السياق إلى أهمية الإبداع بالنسبة للإنسان وبالنسبة للجماعة التى ينتمي إليها هذا الفرد باعتباره البوابة الذهبية للتعامل مع معطيات الحياة المستمرة والتى تزداد تعقيدا وغموضا يوماّ بعد يوم، كما قدمنا إطلالة سريعة على معنى الإبداع كمفهوم وسلوك ورأينا أنه القدرة على إنتاج الجديد المناسب وغير المكلف والذى يواجه المشكلات المطروحة بحلول مقبولة .. ثم قدمنا بعض التفاصيل حول الإبداع فى مناخ حر لأن الإبداع لا يتحقق فى ظل ظروف القهر والخوف، وحتى إذا ما وجد المبدع فى مناخ غير ميسر فإن عليه أن يخلق داخل نفسه مناخا داخليا وخاصا للحرية يساعده على تجاوز ظروف القهر والكف التى يتعرض لها من الآخرين، وهو فى سبيل ذلك دائما إنسان مغامر ومخاطر لأن الإبداع هو بالضرورة مغامرة ومخاطرة ولكنها المخاطرة المحسوبة أى التى تهدف إلى حل مشكلة ترمى إلى تجاوز الغموض وفك الطلاسم والمعضلات.
وفى النهاية قدمنا فكرة موجزة عن أسلوبين لتنمية الإبداع يتسمان بالبساطة والوضوح أولهما هو أسلوب "المنتورية" والثانى هو أسلوب "العصف الذهنى"، الذى يهدف إلى تيسير الوصول بالفرد العادى إلى أقصى فاعلية له من أجل التعامل مع ما تأتى به الأيام من أسئلة وما تطرحه من تناقض.