المركز العربى للتعليم والتنمية : المقالات

تاريخ النشر: 27 يوليو 2015
توصيف البرنامج: القيم والمستقبل: دعوة للتأمل
شغل موضوع القيم اهتمام الكثير من فلاسفة التربية ومفكريها منذ طفولة الفكر الإنساني باعتبار أن تنمية القيم هى جوهر التربية وغايتها. فالتربية، فى تحليلها النهائى، مجهود قيمى مخطط يستهدف فيما يستهدف تحليل وتقديم القيم الفردية والمجتمعية والإنسانية وغرسها فى أبناء المجتمع صغارا وكبارا.
وقضية القيم تطرح بإلحاح اليوم فى كل المجالات والتخصصات وليس فى التربية وحدها؛ فهى تهم الاقتصاديين والسوسيولوجيين والسيكولوجيين والسياسيين وغيرهم. ثم أنها تهم قضية التنمية بوجه عام.
وإذا انطلقنا من حقيقة أن كل المجتمعات تمتلك فى الأساس قيما وإيديولوجيات وهى دائما فى حالة تتأرجح ما بين الثبات والتغير النسبى، فإن هذا يعنى أن القيم والعقائد التى يتبناها المجتمع تتطور باستمرار بخطى تتراوح ما بين ثابتة تقريبا إلى ثورية. فإذا كانت الخطى سريعة فإن المرء يلاحظ توافر مجموعتين من القيم فى آن واحد:
قيم تقليدية سائدة يتمسك بها المجتمع الحإلى، وقيم أخرى مغايرة يأخذ بها المجتمع المستقبلى. وبدهى أن هذه التركيبة لا تعنى أن تحل مجموعة قيمية كبديل كامل للمجموعة الأخرى. فحتى فى حالة التغيرات المجتمعية العنيفة، كتلك التى حدثت فى المجتمع الروسى عام 1917، وفى المجتمع الصينى عام 1949 لم تتخلص مثل هذه المجتمعات تماما من القيم التى كانت سائدة قبل الثورات. كما أن القيم والعقائد التى كونت أسس الثقافة والمجتمع والأمة فى دول الغرب بشكل عام بقيت كما هى حتى أوائل العقد السابع من هذا القرن رغم عمق وسرعة التغيرات التكنولوجية والمعرفيه. وفى كل هذا كانت القيم هى نماذج واسعة للثقافة، لذا فهى ثابتة نسبيا.
ولكن مع إرهاصات الستينيات، صار من المؤكد أن الناس فى كل المجتمعات تقريبا يواجهون عصرا لم يعد يسلم إلا بالقليل من القيم والمعتقدات والمؤسسات. فالكل تحت ضغط، والكل يواجه "تحديات" تقتضى "اتخاذ قرارات" بشأن "اختيارات" شديدة الأهمية. وتعكس هذه الاختيارات ما يفضلون، وهذا بدوره يعكس قيم الناس التى هى عوامل مهمة وحاسمة فى تحديد سلوكهم.
ومن هنا يصبح من اليسير علينا التنبؤ بدرجة معقولة- بأن قيم الناس سوف تنعكس فى المستقبل على بيئتهم الاجتماعية والتكنولوجية. وهذا فى الحقيقة راجع إلى أن القيم التى نمتلكها تمثل لنا محددات عقلية لاختياراتنا، وتعمل بالتالى بمثابة موجهات لسلوكنا، فعندما نختار تصرفا بعينه ونفضله على غيره من التصرفات، فإننا نفعل ذلك لأننا نعتقد أنه سيساعدنا على تحقيق بعض قيمنا، أكثر من أى تصرف أخر.
وتزاد أهمية فحص قيم المستقبل مع تصاعد حركة الدراسة العلمية للمستقبل باعتبار أن نوع المستقبل أو المستقبلات المفضلة لدى الإنسان سوف تعتمد جزئيا على الأقل- على القيم التى تغذى صناعة القرار. وسوف تعتمد على مدى قدرتنا على الفهم الواضح والتنبؤ بالتغيرات فى هذا البناء المعقد والمتحول للقيم، ذلك البناء ينظم السلوك الإنساني، وبالتالى يصبح على العالم المستقبلى والمعنى يوضح سياسات توجيهية أن يتساءل عن القيم إلى تستطيع- أو ينبغى لها- أن تضطلع بدور الخطوط الموجهة للعمل أو السلوك، وأن يحدد مدى فاعليتها فى المستقبل.
وبدهى أن كل زيادة فى معرفتنا وقوتنا المستقبلية توسع مدى مسئولياتنا الأخلاقية وتطرح علينا اختيارات وتساؤلات قيمية من نوع لم نألفه من قبل. فعلى سبيل المثال ماذا يمكن أن يحدث لو تم الانتهاء من مشروع الجين الإنساني (The Human Genome Project) والذى يجرى الآن، والذى سوف يقدم خريطة كاملة للشفرة الوراثية تسمح للعلماء بتوجيه الكائنات البشرية إلى صيغ وأشكال ما فوق الحياة الإنسانية ذات سلوك وملامح متواصلة. إن هذه القدرة الجديدة فى توجيه مصيرنا سيكون لها مغاز عميقة بالنسبة للقيم الإنسانية. فإطالة العمر (التعمير Aging) مثلا، وتمكين شخص ما من أن يعيش ألف عام فى صحة شبابية كاملة، يطرح تساؤلات قيمية أساسية من قبيل: كيف ستكون الحاجة إلى الأطفال؟ ومن الذى سوف يتولاهم؟ كم عام سيعمله هذا الشخص؟ كيف سيتغلب هو وغيره من الناس على الملل؟ كيف يشعر الشاب تجاه جده الخامس مثلا الذى سيكون صغيرا مثله تماما.
وإذا أخذنا مثالا أخر يقع، أقرب ما يقع، فى باب الخيال العلمى، وهو خاص بما يسمى إعادة الحياة عن طريق (الموت المتجمد)، كما فعل العالم السيكولوجى جيمس .هـ. بدفورد J.H.Bedford  الذى أصيب بالسرطان فى أوائل 1967 وطلب قبل وفاته من عدد من الأطباء والعلماء أن يحفظوا جسده فى الثلج الجاف، وتم ذلك بالفعل عقب وفاته مباشرة ثم حولوا جسده بعد ذلك إلى كبسولة تحتوى على النيتروجين السائل فى درجة حرارة 196 مئوية، وكان يأمل من ذلك حفظ جسده إلى مالا نهاية عند درجات الحرارة المنخفضة حتى يصل الطب إلى علاج للسرطان. فيزال الجليد عن جسده ويعالج المرض ثم يعود للحياة.
وسواء كان العلماء على صواب أو خطأ، فإن الحدث يثير قضايا فلسفيه مثيرة مثل: ما مدى سعادة د.بدفورد أو غيره إذا ما أعطى منحة الحياة الجديدة فى مجتمع ما فى المستقبل؟ وحتى بافتراض الموت الفيزيقى، هل سوف يرغب فى الحياة فى مجتمع قد يكره قيمه؟ وهل يمكننا أن نتنبأ بقيم المستقبل؟
ومثل هذه الأسئلة، وغيرها قد تبدو أكاديمية، ولكن فى الحقيقة إن كل أفعالنا تتأسس على التنبؤات حول القيم المستقبلية. وإن قرار بدفورد-على سبيل المثال- يعنى الاعتقاد بأنه عند لحظة زمنية معينة فى المستقبل سوف تحفز قيم شخص ما القرار بإعطاء الدواء إلى جسد ثلجى وإحيائه، وهذا قد يكون أو لا يكون تنبؤاً دقيقا ولكنه بالرغم من هذا يظل تنبؤا.
ومثل هذا التنبؤ وغيره-سواء أكان دقيقا أم لا- تقف وراء ليس فقط الأفعال الاجتماعية الصغيرة الروتينية، أو وراء القرارات المرتبطة بمواضع مثل؛ أطفال الأنابيب (التلقيح الصناعى)، والأمهات البديلة، وتأجير الأرحام، والقتل الرحيم، والإنسان خارق الذكاء (Superintelligent) والبصمة البيولوجية، والتوسع فى زراعة الأعضاء الصناعية فى جسم الإنسان أو ما أصبح يسمى بتكنولوجيا الإحساس أو الإدراك Conscious Technology.
وثمة مسائل وقضايا أخرى محصورة فى الخيال العلمى حتى الآن كنقل المخ وامتداد العمر. الخ، بل أنها أيضاً وراء كل برامجنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والسياسية.
وفى ضوء ما سبق لنا أن نتساءل وبإلحاح:
هل قيمنا الإنسانية والاجتماعية فى أزمة؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فما أسباب ذلك؟ وكيف تتغير القيم، وأى قيمنا يجب أن نعدل ونغير، وفى أى اتجاه نطور، وما مدى صحة القيم التى نلتزم بها. بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونسأل عن إمكانية صياغة نظرية للتغير القيمى المستقبلى بعامة وفى مجتمعنا العربى بخاصة.
وضمن هذا الإطار من التساؤلات نريد أن نقدكم محاولة- ومجرد محاولة- لمساهمة أولية فى باب تأمل القيم الإنسانية ونحن على أعتاب القرن الحادى والعشرين، وسينصب اهتمامنا بالأساس على بعض من هذه التساؤلات لاسيما ذات الطابع النظرى والتاريخى تمهيدا لفحص التساؤلات من زاوية واقعنا القيمى العربى فى دراسة أخرى.
وعليه، فإن هذه الدراسة الحالية تمثل الجزء الأول من دراسة موسعة للنظر فى قيمنا العربية من منظور تربوى مستقبلى وفتح نقاش جديد حولها.
أزمة قيم أم قيمة أزمة؟
والقيم فى عالمنا هذا تواجه- فى الواقع- أزمة أم حقيقة. ولعل استرشادنا بتفسير توماس كوهن (T.Kuhn) للنموذج الأساسى للتغير (Paradigm Change) فى الثورة العلمية يمكن أن يمدنا بقياس للتمثيل.
فعبر التاريخ البشرى تغير النسق القيمى للمجتمعات ببطء، وبدرجة ضئيلة، لا يمكن إدراكها فى كثير من الأحيان، لدرجة أنه عند النظر إلى هذا النسق فى حياة شخص ما، يبدو هذا النسق وكأنه لم يتغير. وهذا البطء فى التغير، جعل التنبؤ بالقيم سهلا بحيث يمكن لكل جيل أن يتنبأ بقيم الجيل اللاحق، بقدر معقول من الدقة عن طريق إسقاط قيمه الخاصة به.
وأيضاً يمكن أن يفترض جميع أفراد كل جيل (وعادة ما يفعلون هذا) أن الأطفال عندما يكبرون سوف يشتكرون إلى حد كبير فى قيم آبائهم، وبهذا الشكل بقيت القيم التقليدية والمعايير الاجتماعية ممتدة بين الأجيال التالية والسابقة، وظلت الأنشطة تتحرك داخل نطاق لا يتعدى الدولة الواحدة، وفى نطاق قطاعاتها التقليدية (الزراعية والصناعية والتجارية)، وبشكل لا يتعدى الأطر والسياقات المحلية (الاقتصادية والاجتماعية والبيئية). ولذلك، فقد ظلت القيم تعمل بثبات نسبى تحسد عليه وبقيت متواصلة لأنها كانت قادرة على تحديد الاختيارات، وتوجيه السلوك الفردى والجماعى والمجتمعى، كما ظلت منسوجة بدرجة معقدة وثابتة فى اللغة والتفكير وأنماط السلوك وكان تغيرها بطيئا وتدريجيا.
ولكن مع قدوم الثورة الصناعية الأولى وظهور عصر النهضة بدأ رفض بعض القيم واستبدالها بقيم جديدة تقوم على الاستنارة والمركزية وغير ذلك من قيم تؤكد على الإنسان كسيد للطبيعة ومالكها، وتلك التى أكدت على النزعة الفردية الضاربة، والتنافس على الأسواق وفتوحات المغامرين الغزاة، كما اخترعت خرافة الذات المنعزلة كالجزيرة فى البحر، وقطعت الذات الإنسانية عن بقية العالم، واقتصرت فى معرفتها على المناهج التى أثبتت جدواها فى تناول موجودات الطبيعة، وكل القيم التى كونت ثقافة يسميها جارودى "الثقافة الفاوسية". وقد مهدت هذه الثقافة لتغير محسوس ومتسارع فى القيم السائدة، بل إنها شاركت بفاعلية فى تغير المعايير الثقافية والسياسية والاقتصادية، وأصبحت هى ذاتها جزءا من مفهوم أوسع للتغير الثقافى الثقافى عبر الأجيال. وبرغم البطء النسبى لقيم التغير الصناعى فى عصر الحداثة، فإنها ساهمت فى تشكيل خبرات تاريخية متميزة أحدثت تغييرات عميقة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا وتربويا، كما أنها فى الوقت نفسه استجابت للبيئة التى تحيط بها وتشكلت وفقا لها.
ومع محدودية هذا التغير القيمى الثقافى، بمعايير اليوم، إلا أنه استطاع، فى ظل نموذجه الأساسى التقليدى، والمنطلق من قيم الحداثة بطابعها اللاإنسانى، والسلطوى والمادى، أن يحرز نجاحات كثيرة فى كل مرحلة تاريخية، فاستطاع إلى حد كبير تشكيل النمو الاقتصادىللمجتمعات وتحديد نوعية تطورها فى هذا النمو، وإعادة تشكيل الأساس الاجتماعى للصراعات السياسية التى يقوم الناس بتأييدها، والطريقة التى ينالون بها أهدافهم السياسية، كما كان لها دور رئيسى فى تغيير نسب النمو السكانى، والتكوين الأسرى، ونسب التردد على المؤسسات الدينية. وكثيرا ما كان يتم تعديل بعض القيم أو التخلى عنها فى سبيل استمرارية النسق القيمى والتغير الثقافى بشكل عام، ولذلك فإن الأجيال السابقة كثيرا ما كانت تضحى عن طيب خاطر باستقلاليتها الفردية من أجل الأمان الاقتصادىوالطبيعى.
وفجأة، وبسرعة، تغيرت الأحوال، وذابت كل التقسيمات، وتحركت الأحداث، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت تظهر مواقف جديدة واختيارات عديدة تتطلب قيما ثقافيه جديدة، كان من شأنها فتح أبواب التساؤلات المشروعة حول جدوى القيم التقليدية فى هذه الأحوال المستحدثة، وتم اختبار النموذج الأساسى التقليدى فى مواقف جديدة متنوعة كشفت فى النهاية عن تهافته وشحوب تأثيره نتيجة لفشله فى تقدم نفس الإنجازات والنجاحات التى قدمها فى الماضى بنفس القوة التفسيرية، وزادت نقاط الغموض فى السياق الأصلى للنموذج الأساسى، وازدادت حالة عدم الرضا عنه، خاصة فى الستينيات عندما تم تغيب القيم الإنسانية والثقافية عند التحليل التنموى للمجتمعات، مقابل إلحاح مبالغ فيه على القيم الاقتصادية، مما جعل الأخيرة هى الأسلوب المسيطر للتحليل.
 
     لهذا كله ازدادت الشكوك وحالات الرفض للنموذج الأساسى التقليدى بعدما كشفت كل المعالجات النقدية خلال الستينات عن كافة المبالغات والتحريفات التى أصابته ، وجعلت منه أداة لاستراتيجيات تنموية وإنسانية مغلوطة ( زاهر ، 1994 ). وإزاء هذا كله حديث (أزمة ) شديدة اختلطت فيها المفاهيم والمعتقدات وتضاربت القيم إزاء حالة عدم الرضا بين كافة البشر ، وخاصة بين الفئات العمرية المختلفة . وطرحت مفاهيم وتطورات قيمية مغايرة لقيم الحداثة والمادية ، كما طرحت تساؤلات جديدة ترتبط بقضايا ووسائل ، فكرية وإيديولوجية وكونية ومستقبلية وبيئية عديدة ، أعمق من أن يسمح لها الإطار الكلاسيكى للحداثة ، بأساليب تفكيره ومناهج تحليلية وأنماط قيمة ، بمناقشتها .
     وقد أدى غياب اتفاق فى الإطار التفسيرى والمنهجى للقضايا المثارة إلى التفكير فى البحث عن النموذج أساسى جديد ( New paradign ) ، يعمل بمثابة إطار لفهم وتحليل وتفسير وبحث القيم والظواهر المجتمعية والكونية الجديدة .
     وقد كان لعوامل ومستجدات كثيرة الدور الأعظم فى تفجير الحاجة إلى مثل هذا النموذج الأساسى الجديد ، لعل فى مقدمتها الثورة الصناعية الثالثة ، أى الثورة العلمية التكنولوجية المتقدمة التى ترتكز بالأساس على المعلومات وإبداعات العقل الإنساني فى ثلاثة مجالات أساسية هى : المعلوماتية والاتصالات من بعد ، والهندسة الحيوية . وقد استطاعت هذه الثورة أن تعيد توزيع الثروة فى العالم ، فلم تعد الثورة بشكله التقليدى ، كالمال والموارد الطبيعية هى الأساس بقدر أهمية المعرفة والمعلومات . وقد صاحبت هذه الثورة ثورات وعوامل أخرى ، فى مقدمتها الصحوة الدينية والأخلاقية ، والثورة الديمقراطية ، وثورة الفرد ، وتصاعد دور المرأة فى القيادة ، والثورة الشاملة فى الفنون والآداب ، وسقوط الدولة الاستبدادية والاشتراكية ، والتحول إلى نظام السوق (Nisbitt ,Aburdense,1990,206,Toffler,1990 ) . وقد أحدثت هذه العوامل ومعها الحروب المختلفة تحولات عميقة فى البنى المجتمعية والكونية ، وقادت إلى تغيرات اجتماعية وثقافيه وتكنولوجية مذهلة غيرت من شكل الظواهر الاجتماعية التقليدية ، وسببت العديد من المشكلات الاجتماعية الجديدة ، وأصبح بالتالى التعامل معها يقتضى أساليب واقترابات وقيما جديدة وغير تقليدية ، كل هذا قاد إلى تعمق ( أزمة القيم ) ، خاصة قيم الحداثة وما قبل الحداثة ، وأزمة نموذجها الأساسى الذى تستند إليه ، وأدى من ناحية أخرى إلى تبنى عديد من قيم ما بعد المادية وما بعد الحداثة .
 
قيم ما بعد الحداثة : النشأة والإشكالية
     يتبين للمدقق أن الدعوة إلى قيم ما بعد المادية( postmaterialist values ) أو قل قيم ما بعد الحداثة (postmodernity values ) قد ظهرت أول مرة ، كعامل سياسى هام وعظيم ، فى الستينيات عن طريق حركات الطلاب الذين كانوا أكثر فئات المجتمع تأثرا بالعوامل والثورات السابق الحديث عنها ، بالاحتجاج على وضعيتهم وتمردوا على قيم مجتمعهم ، وأسس النظام والعقلانية وتوزيع الأدوار فيه ، وبشروا ، هم وفلاسفتهم ، بحلول مجتمع جديد يقوم على قيم وأسس مغايرة ، وهو ما عرف فيما بعد ، بمجتمع ما بعد الصناعة (Post-Industrial society) أو المجتمع الإعلامى ، أو المجتمع "التكنترونى" ، أو مجتمع ما بعد المادية ..الخ . (أنظر : روز، 1994 ، 190 –212 ) وقد أعلن الشباب فى هذه الحركات رفضهم التام لأن تكون المادة والامان المادى والاقتصادىهى القيم العليا لهم ولمجتمعاتهم ، وأعلنوا قطيعتهم مع القيم الحديثة العليا ، ومع قيم التقدم والعقلانية الخالصة عامة ، وبلوروا ثقافيه مضادة (counter culture)، إنسانية بألأسس، وتقوم على التأكيد الأعظم على قيم الحياة ، ونوعية الحياة والابداع ، والخيال ، وبالتالى على القيمة الحرية الإنسانية : فى العمل والحياة الاجتماعية والشخصية والسياسية . ورغبتهم فى التعبير عن قيم قادرة على التكيف مع المستجدات ، وخاصة مع التكنولوجيا ، التى اتخذوا موقفا مضادا وصارما منها ومن استخداماتها. وبلورت دعوتهم ثقافة وقيما تقوم على الأمن النفسى والاجتماعى ، والمشاركة الاجتماعية والسياسية فى
اتخاذ القرارات ولاسيما تلك المتعلقة بمصيرهم ومستقبلهم .
     كما كان من أبرز ما تبلور الدعوة إلى تكافؤ الثقافات الإنسانية وعدم التعصب من قبل الثقافة الغربية ضد الثقافات الأخرى ، وبالتالى فقد أسست حركة الشباب معايير وأسسا جديدة للفهم الإنساني والاجتماعى والكونى . وكان من جراء ذلك أن ظهرت تداعيات كثيرة ، لعل فى مقدمتها ظهور قيم جديدة (ما بعد المادية ) أحدثت انشقاقات فى الأوضاع السياسية ، وتغيرات فى المعايير التى يقيم بها الناس، وموضوعية الاحساس بالحياة الأفضل . وفوق كل ذلك ، فإن نشأة قيم مابعد المادية قد كان هو الجانب الأساسى من التغير القيمى والثقافى الذى أسهم فى إعادة التشكيل الاتجاهات الدينية والأدوار التى يقوم بها الإنسان ، رجلاً وإمرأة ، والمعايير الثقافية المختلفة، خاصة فى المجتمعات العربية (Inglehart,1990,66 وأنظر حسان 1994 ، روز،1994 ) .
    والواقع أن هذا التحول الذى تجلى فى الثمانينات من هذا القرن ، يعود فى قطاع كبير منه إلى الطلاب أنفسهم عن طريق اندماجهم فى الهيئات والمؤسسات المجتمعية بعد أن كبروا فى السن ، فقد ساعد على تغلغل وحقن المجتمع ومؤسساته بقيم ما بعد المادية ، وكان تركيزهم على صفوف المهنيين الشباب ، والموظفين المدنيين ، والمديرين ، ورجال السياسة . ويبدو أن ذلك كان عاملاً رئيسياً فى نشأة طبقة جديدة ، فى المجتمع الغربى ، وبعض المجتمعات النامية ،وهى من التكنوقراط الشباب ذوى التعليم العالى ، والذين يتلقون رواتب مرتفعة، ويتخذون فى نفس الوقت موقفاً مضاداً نحو مجتمعاتهم ، (Inglehart,1990,67) وهؤلاء التكنوقراط كانوا أبرز من دعا إلى التأكد على قيم جديدة إنسانية تتصل بالمحافظة على البيئة وصيانتها ، ونوعية الحياة ، واهتموا بقيمة الكونية Globslism كقيمة عليا ، باعتبار أن الأزمات التقليدية لم تعد ازمات منفصلة عن بعضها ، بل أن التداخل والتشابك يجمعها فى التحليل النهائى كأزمة كونية تواجة البشرية ، وكانت أزمات مثل التلوث البيئى وتعاطى المخدرات، وأزمة الطاقة، والأزمة التنموية وأزمة الحروب وغيرها أمثلة للتأكيد على البعد الكونى فى مثل هذه الازمات التى تواجهها البشرية جمعاء .
    وقد ساعدت الأحداث الكاسحة فى أوائل التسعينات ، بدءاً من الحرب الكويتية العراقية، وانهيار الاتحاد السوفيتى ، وما حدث فى جنوب افريقيا ، والمجتمع الأوروبي وتحولاته، وجنوب شرق أسيا وتكتلاتها- ساعدت على التحرك نحو قيم جديدة مشتركة، قد تكون فى البداية (قيم الأزمة) التى ترتبت على تلك الاحداث ، ولكنها اصبحت الآن قيماً تحرك السلوك، ليس فقط على مستوى الحكومات ، بل أيضاً على مستوى السلوك اليومى لرجل الشارع.
    وفى أطار قيم الأزمة هذه بدأت قيم كثيرة فى الذيوع والانتشار بعد قبولها، وخاصة القيم المتصلة بالسلام والمحبة واحترام البيئة وصيانتها . وبدلاً من التعصب لقيم معينة – مهجورة ومتناقضة أحياناً – بدأت الدعوة إلى قيم إنسانية كاحترام الحياة ، والمسئولية تجاه الأجيال القادمة ، وحماية البيئة ، وتقديم المساعدات لمن يحتاجها سواءً داخل الأسرة أو فى الجماعة الإنسانية بشكل عام ، وبات من المألوف أن نفهم هذه القيم وغيرها ، على أنها عناصر أخلاقية يبنى عليها الضمير العام للقيم الإنسانية الشاملة .(Feather,1989,87,Beare and stalghter,1993,2)
     ويبدو أن مثل هذه التحولات السريعة فى القيم ، التى نقلتنا من أزمة القيم إلى قيم الأزمة، والتى زادت من صعوبة التنبؤ بقيم المستقبل ، ستحول بقوة المواقف الثابتة للشعوب التقليدية واستراتجياتها الجامدة فى التكيف ، أى فى ثقافاتها ( بإعتبار أن الثقافة هى فى التحليل النهائى استراتيجية أى شعب فى التكيف مع المستجدات ) ، كما ستؤثر تأثيراً بالغاً فى طبيعة وعمق التغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا والاجتماعية والسياسية تلك التى أحدثتها. وبالتالى فإن التسارع غير المسبوق فى التغير القيمى سيكون واحداً من أكثر التطورات درامية فى التاريخ الثقافى للجنس البشرى كله فهو- على حد تعبير توفلر- يحطم الهوية المفترض وجودها بين جيل وأخر، وهذا التسارع يجعل افتراض أن قيم أجيال المستقبل سوف تشبه قيمنا، هو إفتراض لا يمكن الدفاع عنه، كما يجعل من المستحيل التنبؤ بالقيم المستقبلية بواسطة الاسقاطات الخطية المستقيمة البسيطة.(Toffler,1969,2) .
     وأيا كان مدخلنا إلى الثقافة والتحليل الثقافى للقيم ، ذاتيا(Sybjective) أوبنائياً (Structural) أو مسرحاً (Dramaturgic) أو مؤسسياً(Institutional)،(للمزيد أنظر:Wuthnow1987,6-9)-فأن القيم ،أى التكوينات العقلية التى قام بها (أو تبناها) الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات بما تتضمنه من معان، ذاتية أو موضوعية، تتشكل ، من بين ما تتشكل به ، بعدة طرق ، أهمها الآن تمازج الثقافات واختلاطها اجتماعياً وتوحدها من خلال التدفق العام للمعلومات ، والتكنولوجيا، والمال، عبر الحدود الإقليمية لكل مجتمع..فبتقدمنا فى عصر المعلومات نجد أن انتشار الثقافة أصبح(معدياً) كالأمراض المعدية ينتشر بصورة سريعة جداً ..
     ففى الماضى عندما كانت توجد ثقافات مختلفة ، فإننا نجد أن الثقافة القوى كانت تلتهم الثقافة الأضعف. وكانت الثقافة الأقوى تفرض شروطها على الثقافة الضعف، ولكن فى عالمنا المعاصر، نجد أن كل ثقافة هى نفسها مصدر للقيم والأفكار والابداعات المختلفة. وبعبارة أخرى ، تتزايد سرعة نقل الأخبار عبر أنحاء العالم ، فاليوم على سبيل المثال يوجد أكثر من  ...1قمر صناعى تدور فى سماء العالم . وهذه الأقمار الصناعية وشاشات التلفزيون تعمل على التبادل السريع للثقافة العالمية. وتزايد المعرفة اليومية للثقافات الأخرى واكتشاف بذلك قيم الآخرين، وملاحظة الأتجاهات غير المألوفة، والتعرف على الوحدة المتعددة للإنسانية.
     فالمجتمعات الثقافية أصبحت اليوم لا تستطيع أن تعيش فى عزلة وانفصال ثقافى عن باقى أجزاء العالم .. هذا العالم الذى أصبح يعرف بالقرية الإلكترونية العالمية.. فالتلفزيون العالمى مثلا أصبح قادراً على توحيد العالم من خلال تخطى الحواجز وكسر الحدود، حدود المعلومات الخاطئة ، والدعاية، والأسطورة.. فهو يستطيع تغيير مدرجات البشر بعرض قيم ومعتقدات ثقافات أخرى ، تغييراً سريعاًَ ،بل ومذهلاً.(Feather,1989,91-92)
     وفى الواقع ، فإن السرعة الكاسحة والمتزايدة للتغير القيمى تواجهنا-ليس – فقط بالسؤال: ما هى قيم الأجيال المستقبلية ؟ ولكن أيضاً بالسؤال الأكثر إلحاحاً : ماذا سوف تكون عليه قيمنابعد مرور عقد أو عقدين من الزمان؟
     وهذا السؤال يواجهنا كل يوم عندما ندير عملية صناعة القرار واتخاذه فى السياسة والتخطيط العمرانى، والشؤون الدولية ، والتعليم ،والعلم والتكنولوجيا ، وهى قرارات سوف تدوى بقوة – على الأقل- فى العقود القليلة القادمة. فنوع المستقبل الذى سيختارة الانسان سوف يعتمد على مدى قدرتنا على الفهم الواضح والتنبؤ بالتغيرات فى هذا البناء المعقد والمتحول للقيم، ذلك البناء الذى ينظم السلوك الإنساني. وهنا يصح أن نتسائل مع "توفلر":
    أى قيم يجب أن تخدمها تلك القرارات التى نتبناها اليوم ؟ أو ما القيم التى من المحتمل أن نتبناها فى وقت ما فى المستقبل ؟ وهل يمكن حل الصراع بين تلك القيم ؟ ولمصلحة من؟ وعلى حساب من؟. ثم إذا كانت القيم تغيرا فى الاستجابة للتغييرات فىالبيئة الاجتماعية والسياسية فهل تشكل هذه القيم تلك البيئة؟ أيهما إذن الدجاجة وأيهما البيضة ؟. ثم إذا كانت صياغة المشكلة غير صحيحة، أو إذا كانت العلاقة بين الأثنين متبادلة، فما هى – بالضبط – نقاط الاتصال؟. (Toffler,1969,3-4)
    نصل إذن إلى الاشكالية بقدر ماهى "قيم أزمة " أمة ما، كالأمة العربية، بقدر ما تشتبك بوضوح مع أزمة القيم، العالمية.وهنا تتضح صعوبة التنبؤ المستقبلى.
    وتأسيساً على ماسبق ، فإننا إذا أردنا أن نفحص النسق القيمى فى مجتمع ما ونضع لعملنا هذا إطاراً مستقبلياً مترجماً إلى استراتيجية نسير على هديها، فلا بد لنا ، منذ البداية ، أن نحدد بداية ما هى طبيعة التغير المستقبلى للأنساق القيمية؟ وكيف يتم؟ وما فرضيات النظريات الحاكمة لذلك؟ وما آلياتها التى تعتمد عليها؟، وما طبيعة السياقات التى يتحول خلالها التغير القيمى، ومدى تأثرها بهذا التغير الذى تحدثه؟
    وفى تقديرنا أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات تمثل المفتاح المبدئى لفهم أية تغيرات قيمية وحدود حركتها المستقبلية. وفى سبيل تحرك قيمنا صوب هذا التغير الضرورى نتقدم إلى الجزء التالى .

التغير القيمى المستقبلى : الفرضيات: فرضياتة والياته

يمكن تناول هذا التغير من خلال محاور فى مقدمتهاما يلى :
ما هى القيم :
    ليس من مهمة هذا المدخل تقديم وصف تفصيلى لمفهوم القيمة وطبيعتها، فهذه مهمة تخرج عن نطاق دراستنا وقد سبق لنا معالجتها (زاهر،1983)، ولكن الوعى بالحدود العامة لهذا المفهوم قد يكون ضروريا من أجل تقديم إطار عام لدراسة التغير القيمى المستقبلى. والاشكالية تتجسد فى وجود وجهات نظر متعددة ةمتنافسة بشأن تجديد مفهوم "القيمة"، إلى الحد الذى زاد من غموضها أكثر مما زاد من فهمنا لها. ويلخص ماكس فيبر M.Weber هذا الموقف بأن "القيم هى ذلك الطفل التعيس الذى يعانى من بؤس وشقاء عدم علمنا به".
    ففى الاستخدامات الباكرة للمفهوم ، خاصة فى ميدان الاقتصاد، كان المفهوم محددا ودقيقا. ومع شيوعه فى العالم الاجتماعى فى العقود القليلة الماضية، اتسعت معانية وتشعبت محدداته. ففى علم النفس يستخدمه العلماء مرتبطا بمصطلحات مثل: الاتجاهات، والحاجات ، والمشاعر والنزعات والميول ، وتركيزات الطاقة النفسية ، والتفضيلات، والدوافع ، والتكافؤات. ويتحدث عنه فى الانثربولوجى من خلال مصطحات : الإجبار ، روح الشعب، نموذج الثقافة، أسلوب الحياة.ويشير علماء الاجتماع والسياسة إليه من خلال المصطلحات: الميول، وعلم الأخلاق، والايديولوجيات، والعادات، والمعايير، والاتجاهات ، والطموحات، والتعهدات، والحقوق، والعقوبات (انظر:( ُEncycholopedia Britanica, 1992, 746-747, Sills,1968,284)
    وتأسيساعلى ما سبق، فإنه برغم وجود دراسات عربية عديدة فى مجالات المختلفة للعلوم الاجتماعية بخصوص دراسة القيم من مناظير الثقافى أو التنمية ، الآأننا لا نجد اتفاقا على مفهوم القيم، فهو غالبا ، ما يظهر فى "الدراسات الامبيريقية" مفهوما غامضا ، أو شكلا عتيقا للتفسير يجب أن تحل محلة عوامل أكثر موضوعية وأكثر دلالة .
   وقد يرجع ذلك إلى كثرة مدلولات القيم اختلافها، كما سبق وأوضحنا . فطبقاً لبعض المدلولات تتكون القيم أساسا من مجموعة من الاتجاهات أو من المعايير، أو أنها تشكيلة من المعتقدات.وطبقا لمدلولات أخرى تمثل القيم نظام أفعال موضوعى ، أو أنها أتجاهات وسلوك ومثل ثقافيه معا . بينما يتخذ أخرون مواقف وسطية بين كل هذه المدلولات( انظر: حسين1981 ، زاهر ،1883 ، التابعى ، 1985 ،19 –46 ).
    وبدهى أن مثل هذا الغموض وذاك التباين يقودان إلى إخفاق المجالات العلمية من حيث ارتباط بعضهم ببعض، فالتكرارات الفاشلة تتكرر فى صورة مختلفة ، ودحض المفاهيم يستند إلى معايير لا تحسم الجدل، وحجج الرفض ألقبول لاختلاف المعايير. وهذا الغموض يثير من ناحية أخرى مشكلات منهجية بشأن جوانب (الذاتية والموضوعية) فى القيم ، وبالتالى فى المستوى الذى يمكن من خلاله الاقتراب العلمى من القيم . وخاصة عندما تكون الثقافة هى الإطار أو الهدف من الدراسة؛ فمن ناحية نجد مناقشات تركز على الصفة التفسيرية للتحليل الثقافى (أوالقيمى) أساسا، ومن ناحية ثانية تحاول مناقشات أخرى أن تضع الثقافة أو القيم على أرض تجريبية صلبة كمشروع للبحث . ولا تتفق هاتان المكانتان معا كافيه ويصعب التوصل إلى اتفاق بين هذين المنظورين.
   وفى إطار الشكوك فى إمكانية تقدم تعريف وصفى واحد يغطى تماما المدى الكامل للقيمة المدركة وتنوعها فإنه يمكن بشكل عام أدراك حدود "القيمة" بصورتين: اماواسعة شاملة أو محدودة دقيقة .
   والتصور الدقيق الضيق، له مزايا وفضائل التحديد والوضوح، ولكن قد يؤادى إلى الأخطاء إذا لم يتم أخذ الظواهر المستثناة فى الاعتبار من خلال المفاهيم المرتبطة بشدة بفكرة "القيمة".
   والتصور الشامل الواسع للقيمة له مزية جذب الانتباه للعناصر الممكنة للقيمة فى كل ألوان السلوك التى تفتقد ماهو غريزى وإلى (Sills,1968,283 ) وطبقاً لأهداف الدراسة فإننا سوف
نستعمل مصطلح القيمة (Value) استعمالا واسعا يجعلها تشمل ما يعتز به الفرد فى نفسه ، وفيمن حوله ، وكذلك مايعتز به فى مجتمعه وأمته وثقافتة وكل من فى العالم من الناس والبيئة Rescher,1969,) (108ويجعلنا هذا المفهوم الواسع نسحب هذه الفكرة على مجال رحب يبدأ من القيم الفردية إلى القيم الاجتماعية ويمتد إلى القيم الإنسانية عامة .
   ويدعونا هذا إلى التأكد على استحالة التصنيف القطعى للقيم ، ولاسيما التصنيف التقليدى الذى طرحة سبرينجر(Spranger) والذى يقوم بتحديد ستة أنماط أساسية للقيم . وهذه الاستحالة راجعة إلى اعتبارات أهمها: أن هذا التصنيف المثالى يتصل بالقيم ذاتها أكثر من اتصاله بالأفراد أنفسهم، فالتصنيف تقديرى. كما أنه يمس الأفراد من ذوى المستوى التعليمى المرتفع والخبرة المستفيضة أكثر من اتصاله بجميع الأفراد . كذلك فإنه هناك تداخلا فعليابين كافة الأنماط فما هو اجتماعى ينطوى على ما هو دينى، وماهو اقتصادى ينطوى على ماهو سياسى ودينى ، وماهو نظرى أو علمى له أبعاد اقتصادية وجمالية وسياسية . ومن هنا يستحيل الفصل بين الأنماط ، ثم أن هذه الأنماط تشكل مجموعها قيما اجتماعية بالمعنى الواسع.
    لذا، فمن التبسيط المخل التحور حول القيم – لاسيما عندما ننظر إلى المستقبل -، من خلال منظور تجزيئى لايصلح الآن لدراسة إمبيريقية أو رصد قيمى محدد، هذا بالإضافة إلى أن التحليل الثقافى المستقبلى للقيم يقتضى رؤيتها فى حركتها الكلية الدينامية.
    ومن ناحية أخرى ، يمكن التمييز بوضوح بين نوعين من القيم ؛ قيم تحوزها الأشياء ، وقيمة يتمسك بها الناس . ففى الأولى ، تصبح القيمة سمة تقييمية(Evaluative Property) يمكن التأكد من وجودها وحجمها عن طريق( التقييمات) . أما قيم الناس فهى نزوعات(dispositions) توجة السلوك أو التصرف بطريقة معينة يمكن التعرف عليها واستنتاجها بالملاحظة.
    وبالتالى فأن القيمة التىتحوزها الأشياء هى قدرات تفى بالحاجة المطلوبة أاو إشباعها، بينما القيم التى يتمسك بها الناس هى "نزوع" من الناس لأن يكرسوا مواردهم ( الوقت والجهد والمال) لإنجاز أهداف معينة . وليس معنى ذلك أن القيم التى تحوزها الأشياء تعتبر فى حد ذاتها قيما مادية بحتة لاعلاقة لها بالناس أوخارج دائرة اهتماماتهم؛ إنها على العكس قيم مشبعة بمعان إنسانية وتصبح فى موضوع التقدير الناس وتفضيلاتهم واهتماماتهم .
    وعلية فإن قيمة الشىء قد تكون عظيمة أو ضئيلة ، دائمة أو وقتية ، وربما كانت إحدى قيم الشخص قوية أوضعيفة ، صادقة أو مزعومة . والأخطاء التى يرتكبها الفرد بشأن ( قيمة الشىء) تشمل المبالغة فى قيمة الشىء ارتفاعا أو انخفاضاً، وسوء الحكم على ما يحويه . أما الأخطاء التى يرتكبها الفرد بشأن (قيم الناس) فتشمل أن تنسب إليهم قيما ليست لديهم ، أو تفشل فى التعرف على القيم التى يتمسكون بها ، ونسىء الحكم على أوزان القيم التى يتمسكون بها (Baier.1969.4041) .
    وأخيرا ، ينبغى التأكيد على أن القيم آيا كانت ، ذاتية أو موضوعية ، غائية أو وسلية ، قد يحدث صراع فيما بينها. ليس بالمعنى المجرد ، بل فى المطالب المتنافسة التى يفرضها السعى إليها وادراكها ، على موارد الإنسان المحدودة من السلع والوقت والجهد والاهتمام..الخ.
    وهكذا ، وعندما يحدث تغير فى الأساس المنطقى ( أو العقلانى) المؤثر، أو العمل الإجرائى، الذى فى إطاره يجرى السعى نحو القيمة فإننا نتوقع سلسلة من الضغوط على السلم القيمى المدروس بغرض إحداث" إعادة ترتيب" ، مواضع القيم فيه أو بغرض إحداث تغير فى مستواها، أو غير ذلك من تعديلات وتغيرات سوف نشير إليها فيما بعد.
    وهذا الصراع القيمى يمكن أن يفسر بوضوح صراع الأجيال بين القديم والجديد ممثلا فى صراع الأباء والأبناء ، وأيضاً فى الصراع القيمى بين الذكور والإناث بحكم تباين الأدوار لكل منهما واختلاف المستويات الطبقية والتعليمية والثقافية لهما . وبدهى أن الحكم هنا هو المجتمع بثقافته وتوجهاته ، ولا سيما توجهاته التنموية . وهنا تصبح التنمية عنصراً أساسيا فى تحديد وإعادة ترتيب السلم القيمى للأفراد وللمجتمع بأسره .
    وترتيباً على ما سبق، يصبح للقيمة تكلفة (COST) للحفاظ عليها وعائد(BENEFIT) من التمسك بها ، مادامت تتطلب سعياً للحصول عليها، قد يكون صراعا، وما دامت لها منفعتها. لذا، فبداية يمكن أن نؤكد أن لأى قيمة تكلفة للحفاظ عليها أو لاستبقائها، أى أننا عندما نسعى إلى إدراك قيمة ما ، فإن الأمر يتطلب استثمارا لموارد متنوعة. الاستثمار المطلوب بالتغيرات البيئية والتنموية (فالنظافة تتحقق بشكل أرخص فى المدن الحديثة ، عما كانت فى العصور الوسطى ، وتحقيق قيمة الخصوصية يكلف فى البيئات الحضرية أكثر من نظيره فى البيئات الريفيه).
    ومن هنا فإن الحفاظ على قيمة ما سيتاثر حتى بتكلفتها، فعندما تكون التكلفة منخفضة جدا، ربما اتجهنا إلى (احتقار القيمة) ، وعندما تكون التكلفة ، مرتفعة ، فإما أن نحتقر القيمة موضع الكلام (تماما مثلما فعل الثعلب عندما لم يستطع الحصول على العنب )، أو، وهذا هو الأغلب ، أن نسعى إلى مستويات أدنى فى تحقيقات ، مثال ذلك السكينة والهدوء فى عصرنا الصاخب عصر الصراخ(Rescher, 1969, 75-76 ) .
    هذا وإذا كانت للقيمة تكلفة ، فلا بد أن يكون لها عائد ، ونقصد بذلك أن توضع تلك القيمة فى إطار مساعدتها لنا فى إدراك(القيم الأساسية ) السائدة فى المجتمع ، أى تلك القيم التى تحتل مكان القادة فى السلم القيمى لهذا المجتمع ؛ فهناك القيم التى نلتزم بها أشد الالتزم ، وبكل أنماط الالتزام: مثل الحزم فى المحافظة على القيمة ، والاستعداد لاستثمار الطاقة والموارد فى سبيلها وربط الجزاءات الكبيرة بهذه القيمة (أى قدرا الالتزام المتوقع، وقدر العقاب الذى سينزل المتعدى، وهكذا). وهذه القيم المغلقة لا تخضع للتغير نسبيا، وتكاد تكون بمنأى عن الاختلاف.
     وتقودنا خلاصة هذه الملاحظات (المنهجية والأبستمولوجية) إلى تقدير ما يلى :
     أ – القيم تتدرج وفق متصل فردى- جماعى – إنساني.
    ب – ثمة جدلية بين ذاتية القيم وموضوعيتها على نحو يجعل دراسة أى بعد منهما ( ذاتى       أو موضوعى) بشكل مستقل مسألة مستحيلة .
   ج – أن القيم لا يمكن التعامل معها كأنماط مثالية مفضلة، بل لابد من رؤيتها فى حركتها الواقعية نسيجا متشابكا ومتداخلا فى سلوك الفرد ومن خلال الجماعات والمجتمعات، تدفع الثقافة للأمام ، وترتب أفضليات واختيارات البشر، فى حركة مستمرة لا تتوقف.
    د- أن القيم المصارعة ، ولها تكلفتها ولها عوائدها ( المرغوبة وغير المرغوبة) .
        وفى هذه الحدود ، يمكن رؤية التغير القيمى المستقبل على النحو التالى :
 
 
فرضيات التغير القيمى :
     تتعدد وتتنوع النظريات السوسيولوجية والتاريخية والثقافية والسيكولوجية التى تعنى بتفسير أسس التغير القيمى ، إلا أن "انجلهارت" و"بل" يرجعان التغير القيمى إلى إحدى الفرضيتين التاليتين( Inglehart, 1990,19,20,56,60,Bell,1976,1)
    الفرضية الأولى هى :فرضية  النادرة (A Scarcity Hypothesis) ، وتعنى أن أولويات الفرد تعكس  البيئة الاجتماعية والاقتصادية له، فالمرء يضع أعظم قيمة ذاتية على تلك الأشياء التى تعانى من نقص فى إنتاجها( أى التى يكون عرضها قليلاً نسبياً) وغير متاحة له باستمرار.
    الفرضية الثانية،فهى التنشئة الاجتماعية ( ِA Socialization hypothesis) وهى تعتمد، إلى حد بعيد ، على أن القيم الأساسية للفرد تعكس الظروف التى سادت أثناء مراحل النمو المبكرة ، فالعلاقة بين البيئة الاجتماعية والاقتصادية وبين أولويات القيم ليست مسألة تعديل أو تغيير فورى أو عاجل ، بل تحتاج إلى فترة اختمار طويلة نسبياً( أى فترة ما بين الطفولة والنضج ).
    وإذا نظرنا نظرة تحليلية نقدية ، نجد –بداية- أنة وفقاً لفرضية الندوة ، ذات الطابع الاقتصادي الواضح، أن الحاجات الفسيولوجية التى لا تشبع تأخذ الأولوية على الحاجات الاجتماعية والفكرية والجمالية .. فالجائع مستعد للذهاب إلى أى مكان لحصول على طعامه . وإن كان من غير الواضح وجود تميز أساسي بين الحاجات الفسيولوجية للحياة المادية ، وبين الأمن والحاجات السيكولوجية، كالحاجة إلى الحرية فى التعبير عن النفس ،والحاجة إلى الإشباع الإجمالي . والواقع أن هناك ملاحظات على مثل هذه العلاقة ؛ فمعظم الناس مثلاً ، لا يطيقون العيش فى ظروف الجوع ، وعدم الأمان الاقتصادى. كما أننا يمكن أن نجد قيمن غير مادية كالإشباع الفكرى والجمالى والابداعى فى مناطق محرومة اقتصادياً.
    وهذا ينفى بالتالى وجود علاقة أكيدة بين المستوي الاقتصادى وانتشار القيم غير المادية مثلا. فالأساس فى هذه القيم أو المشاعر يصبح هو الظروف الثقافية ، والمؤسسات الاجتماعية والرخاء السائد أكثر من مجرد المستوى الاقتصادى وعليه فإن، فرضية "الندرة" لا تكفى وحدها لتوليد تنبؤات صادقة وكافيه بخصوص عملية التغير القيمى .
    أما إذا نظرنا إلى فرضية التنشئة الاجتماعية ، وهى فرضية سوسيولوجية الأصل ، فأننا نجد مفهوماً يسود الأدب السسيولوجى، منذ أفلاطون ماراً بفرويد ، ويمتد إلى اكتشافات البحوث العلمية المعاصرة ، ويضح هذه العملية ،وهو مفهوم "البنية الأساسية للشخصية الإنسانية التى تتجه نحو التبلور (Cristallize) فى الوقت الذى يصل فيه الفرد إلى مرحلة النمو ، مع تغيرات قليلة نسبياً بعد ذلك . هذا ،بالطبع ، لا يعنى أنه لا يحدث تغير خلال ( فترة النمو) . ففى بعض الحالات الفردية تحدث بعض التأثيرات السلوكية المؤثرة. وعملية التطور الإنساني لا تتوقف تماماً . ومع ذلك فإن التطور الإنساني يبدو أكثر سرعة خلال السنوات التى تسبق النمو عما تكون فى السنوات التى تكون بعد ذلك . وواضح أيضاً أن هذه الفرضية لا تستطيع وحدها أن تولد تنبؤات مستقبلية نهائية بشأن عملية تغير القيم .
    إذن ، فلو أننا أخذنا الفرضتين معاً ، لتولدت لدينا مجموعة متناسقة من التنبؤات المستقبلية بشأن تغير القيم . فأولاً : بينما نجد أن ( فرضية الندرة ) توحى بان الرخاء يؤدى إلى انتشار القيم غير المادية . نجد أن فرضية ( التنشئة الاجتماعية ) توحى بأنه لا القيم الفردية ولا القيم الاجتماعية ككل يمكنها ان تتغير بين يوم وليلة . فالتغيير الأساسى للقيم للقيم تغير تدريجى يرى فى الجزء الأعظم منه .. يحدث هذا بينما الجيل ( الأصغر ) يحل محل الجيل ( الأكبر ) فى مجموع السكان الكبار فى المجتمع . وبالتالى فإننا – فى فترة ما – نجد فوارق بين القيم للمجموعات الكبيرة سناً وتلك الأصغر سناً . بعد فترة من الأمان الاقتصادى والطبيعى . وبعد فترة أخرى تحتل المجموعة الأصغر أماكن السلطة والتأثير فى مجتمعهم ولا بما تمر سنوات طويلة أخرى قبل أن تصل إلى مستوى القمة فى إتخاذ القرار
( Inglehart , 1990 ,69  ) .
ولذا يمكن القول إن فرضية ( التنشئة الاجتماعية ) تكمل فرضية ( الندرة ) وتفسر تأثير الندرة على السلوك . كما تساعد فى تبرير السلوك المنحرف ظاهرياً . وذلك حيث نجد أن ( البخيل ) الذى عاصر الفقر فى السنوات الأولى من عمره . ويواصل تجميع الثروة بإلحاح فترة طويلة بعد تحقيق الأمان المادى ، ونجد كذلك ( الشخص المتصوف ) الذى يترك متع الحياة ، والذى يظل مخلصاً للأهداف النبيلة العليا التى تفرضها عليه ثقافته حتى فى مواجهة الحرمان الشديد . ففى كلا المثالين تفسير لما يبدو أنه سلوك منحرف لمثل هؤلاء الأفراد ، مرجعة وضعهم افجتماعى الأول .
كما أن أفتراض التنشئة الاجتماعية يفسر أيضاً لماذا لم تكشف الإختبارات التجريبية للحاجات أية صلة ايجابية بين اشباع حاجة معينة فى وقت ما ، والتأكيد المتزايد على الحاجة المثالية الأعلى فى تال . لقد حدث هذا بسبب أن تلك التجارب تقوم على الإفتراض الواضح أنه توجد تغيرات عاجلة فى أولويات الفرد ، ولكن لو أنه ، وفقاً لفرضية التنشئة ، كانت أولويات الفرد الأساسية تحدد على نطاق واسع بالوقت الذى يصل فيه إلى فترة النضج فلن يتوقع المرء أن يجد تغيراً قصير الأجل للنوع الذى تم اختياره . وهذا لا يعنى أن أولويات قيم الشخص البالغ النمو غير قابلة للتغير لمجرد أنه من الصعب أن تتغير ( Inglehart, 1990, 69,70  ) .

أنماط واليات التغير القيمى :-

يطرح نيقولاس ريشر ( R.Rescher ) عدة انماط وآليات للتغير القيمى ضمن نظرى هام ( Rescher . 1969.68-73 ) وفيه يرى أن التغير القيمى يبدا بمجرد انتساب الفرد إلى قيمة معينة ( Values Subscription ) فهذا يعنى ان هذا الفرد لديه هذه القيمة أو يقبلها أو يتمسك بها أو يلتزم بها أو يناصرها .. إلخ ويمكن تطبيق هذه الفكرة تماماً على الجماعات والمجتمعات . فتحريم طعام معين ( كلحم الخنزير مثلاً ) قيمة لدى المسلمين والكاثوليك وإليهود طل بطريقته ، ولكنه ليس قيمة لدى " البروتستانت على الإطلاق " وفى حالة إكتساب الفرد قيمة أو نبذها ، يحدث تغير قيمى وهذا ما يحدث عندما يشار إلى التحول الدينى أو التحول الإيدولوجى .
والتغير القيمى يحدث أيضاًص عندما يتم إعادة توزيع القيم ( Value Redistribution   ) أى عندما تكسب أو تخسر قيمة معينة المؤيدين لها ويتم هذا أولاص بالتزام كبير من بعض الأقليات ثم تعم وتنتشر بعد ذلك .
وأيضاً يحدث التغير القيمى ، عندما تكتسب قيمة ما تأكيداً أعظم أو أضعف من حامليها ( Value emphasis and deemphasis  ) وهذا يرتبط بموقف يركز فيه الاهتمام أو يقل على قيمة بعينها فجأة دون التأثير بموجات تغير القيمة ( modes ) فمثلاً قيمة ( الانتماء للوطن والدفاع عنه ) قد نهتم بها فترة فإذا استقرت فقد لا نهتم بها بنفس القدر ، ولكن عندما يتعرض الوطن للخطر أو الغزو فأنها تصبح فى دائرة الضوء ولها الحق فى الموارد . وقد تنزوى قيم اخرى مقابلها وتعد مهملة ولو وقتياً .
وفى هذه الحالة تحدث عملية إعادة تقييم لكل القيم فى السلم القيمى ويتم بمقتضاها شكل آخر من التغير القيمى هو إعادة ترتيب القيمة ( Value rescaling ) ونجد ذلك بوضوح عندما يحدث توجه على نطاق واسع لإعادة النظر فى الهوية الوطنية ومفهوم الذات فى مجتمع متغير على إثر خسارة كبيرة فى إستقرار الاجتماعى تماماً كما حدث فى الكويت فى ضوء الكارثة الاجتماعية التى حدثت بسبب الغزو العراقى وأيضاً كما حدث فى مصر عام 1967 بعد النكسة العسكرية .
وقد يحدث التغير القيمى فى صورة إعادة نشر القيمة ( Value redeployment ) أى عندما يتوسع أو يتقيد مؤيدها فى تقدير مدى قابليتها للتطبيق فى مواقف يظن انها تدخل فى نطاق هذه القيمة مثال ذلك : قيادة السيارات فى حدود المسموح بها ، يقع فى مجال تطبيق قيمة الالتزام بالقانون . وكذلك المساواة السياسية والقانونية يمتد النطاق الإجرائى لها ليشمل المرأة لكن ذلك لا يعنى أن هذه القيم بذاتها قد منحت مرتبة أعلى أو مختلفة فى نظام ما ، فالأمر ببساطة أننا بدأنا نطبقها على مجال أوسع بعد تغير حدود التطبيق .
وهناك شكل أخر هو تقنين القيمة ( Value restandardization ) وهو نمط يتاثر بالتغيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية تاثراص بالغاً . كما أنه يعكس هذه التغيرات ، وهذا النمط هو تغير فى مقياس تطبيق القيمة ، فالمسافر بالطائرة مثلاً لم يغير الأهمية الكبرى التى يوليها لقيم " الأمان " و " السرعة " و " الراحة " فى وسيلة سفره . ولكنه يتوقع تحقيق هذه السمات القيمية المطلوبة بدرجة اعلى فيجلب مجموعة مختلفة من المقاييس يحكم بها على درجة تحقق هذه القيم ، وبالتالى فهو يغير المعايير التى بواسطتها يقيس مكاسب القيم . والأمر كذلك عندما ننظر ( للتنمية ) مثلاً .. فقد كانت تقاس بمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومى الإجمالي فى الستينات ، دون النظر للعائد الإجتماعى وافنسانى أو الخصوصوية ولكن اليوم حدثت إعادة تقنين لمعايير قيمة التنمية إذ يقصد بها الحياة الكريمة لتنمية افنسان ذاته ورفاهيته وتوفير المن البشرى له ( أمن الناس فى بيوتهم ، وفى وظائفهم وفى مجتمعاتهم المحلية وفى بيئتهم ) وإتاحة الحريات السياسية وغير السياسية لهم ، ورفع مستوى نصيبهم السنوى من الدخل القومى الإجمالي ، والإرتقاء ببيئتهم ومستقبلهم ( زاهر ، 1994 ، 12 – 14 ) . وفى هذا إعادة تقنين لقيمة التنمية البشرية يصاحبه ارتقاء بقيم أخرى من الأمن والصحة والبيئة والسعادة والحرية ... إلــخ .
أما مفهوم خلق هدف لتطبيق القيمة ( value implementation retargeting ) ، فهو يحدث عندما يراجع حاملوا قيمة ما اولويات الفعل التى يتبنونها لتنفيذ القيمة ، أى عندما يضعون تواريخ مختلفة لأهداف تلك الأفعال ..
وأخيرا تتميز أنواع معينة من التغيرات بأنها ترفع من منزلة القيمة ( Upgrading ) فى حين تتميز أنواع أخرى بأنها تخفض من منزلة القيمة ( downgrading ) ، ويطبق ( ريشر ) ذلك على الأنماط والمفاهيم السابقة ، كما فى الجدول التالى ( Reschr,1969,72 ) .
 
أنماط خفض الدرجة

أنماط رفع الدرجة

  • نبذ القيمة
  • انخفاض إعادة التوزيع .
  • إعادة ترتيب سلم القيم إلى أسفل .
  • تطبيق إعادة النشر
  • تهوين القيمة .
-إعادة التقنين عن طريق إسقاط أهداف
  • إعادة خلق أهداف عن طريق إسقاط أهداف .
  • تطبيقية أو إعطاء أولوية دنيا للهداف القائمة.
  • اكتساب القيمة
  • ارتفاع إعادة التوزيع
  • إعادة ترتيب سلم القيم إلى أعلى .
  • توسيع عادة النشر .
  • تأكيد القيمة .
  • إعادة التقنين برفع المقاييس أو المعايير إعادة خلق أهداف بإضافة أهداف تطبيقية أو بإعطاء أولوية عالية للأهداف القائمة .

والخلاصة هنا هى أن أنماط رفع الدرجة تمثيل طرقاً متنوعة تسمح بنشوء تقبل أعلى أو أهمية أكبر لقيمة معينة . كما تمثل كل أنماط رفع الدرجة تقييمات أعلى للقيمة وتمثل أنماط خفض الدرجة إقلالاً بها .
عوامل التغير القيمى المستقبلى :-
بداية لا بد من التفرقة بين نوعين من التغير القيمى : اشتقاقى ( derivativaly ) أو مباشر       ( directly ) .
والتغير القيمى الاشتقاقى يكون عندما تكون القيمة المرجوة ، على سبيل المثال ، قيمة جانبية أو مساعدة لقيم أخرى ، وتتغير بتغير القيمة الأخرى . فلو فكرنا مثلاً ، فى سلسلة قيم متداخلة ( مثل العدل الاقتصادى) وقيمة مساعدة تمثل عنصرا من عناصر تكوين هذه السلسلة                ( ولنقل تكافؤ الفرص ) ، فإن أى تغير فى مصير واحدة سيضمن عموما " تغيرا " مماثلاً فى مصير الأخرى . وهناك نوع أخر مهم من أنواع التغير الاشتقاقى للقيم ، ويوجد فى القيم الوسيلة ( means , Value ) وهى قيم معاونة لقيم غائبة على نطاق اكبر . فعندما ترتبط قيمة مثل النظافة بأخرى مثل الصحة أو التقبل الاجتماعى أو الأيمان ارتباط الوسيلة بالغاية فإن رفع الدرجة أو خفضها بالنسبة لإحداهما تستدعى تغيراً مماثلاً فى الوضع الهرمى للأخرى .
أم التغير المباشر للقيمة فيحدث تحت تأثير عمل فورى مباشر من جانب العوامل المسببة له ، وليس كنتيجة لتغيرات قيمة أخرى ، وتصنف التغيرات القيمية المباشرة أفضل ما تصنف حسب نوع الدافع السببى الذى يحدثها . ( Rescher , 1969, 73   ) .
وفى هذه الحدود يمكننا أن نوضح أمثله من الدوافع السببية ( أو العوامل ) التى تحدث التغير القيمى وذلك على الوجه التالى :-
  1. تغير القيمة الحادث بسبب التغير التكنولوجى : إن للتكنولوجيا أثر واضحا على القيم، إذ أن القيم تتغير لتلائم العالم الذى صنعته التكنولوجيا ويظهر هذا من خلال عدد من الآيات السابق الحديث عنها ، كالتحقيق المعزز ، الجده ، إعادة التوزيع ، إعادة التقنين ، وزيادة المعلومات ، فبتغير التكنولوجيا تتغير الوسائل المتاحة أما الفرد والمجتمع لتحقيق الأهداف المشتقة من القيم فقيمة الصداقة اليوم يمكن ان نحصل عليها عن طريق موجات الراديو ، والأمن الاقتصادىتزيده الحاسبات الآلية ، وربما اتضحت اللذة غدا نتيجو عقار أو إحساس تولده استشاره كهربية لأجزاء من الجلد أو استشارة مراكز السرور فى المخ ( Mauther , 1992,41 ) وعند تطبيق تكنولوجيا جديدة على مواقف أنجزتها القيم القديمة ، فإن القيم نفسها قد تتغير دقيقاً .
 وقد سبق أن اوضحنا أن التلفزيون قد حقق فاعلية كبيرة فى تقديم مجموعة موحدة من القيم على جيلنا الجديد . وسرعان ما ستعجل التكنولوجيا هذا إنتشار فى كل أرجاء العالم ، فالتلفزيون وأقمار البث المباشر المتزامن ستحمل الكلمات والصور التى تعد صحيحة ومناسبة لمعظم الناس فى العالم وربما أراد مجتمع ما أن يفعل ما يفعله مجتمع آخر . وكذلك السيارات قد ساهمت فى زيادة هذا الانتشار عن طريق الزيادة العظيمة فى الحركة . والراديو الترانزستور وغيره يستطيع أن تشارك بقوة فى تحقيق هذا التغير القيمى .
وعموماً ، فإن التقدم التكنولوجى يخلق نوعاً من الوظائف الاجتماعية والسياسية للارتفاع بالمعرفة الإنسانية .. والألعاب الأوليمبية أو المؤتمرات السياسية التى تمثل أحداثاً إعلامية تعرض فى وقت واحد فى كافة أنحاء العالم . فالعالم عبارة عن مسرح . ونحن جميعاً نشارك فى البرامج والمشاهد .. وهذا يوحد ثقافتنا وطريقة شعورنا وفهمنا لبعضنا البعض . وهذا سيجعل الإنسانية أخيرا تكمل الانتقال الكلى من الموجه الأولى لتجمعات ( الغذاء ) إلى الموجه الرابعة لتجمعات ( المعلومات ) وموجه خامسة ( للتجمعات الثقافية ) .
وذلك كما لا حظ ( الفين تولفر ) فى الموجه الأولى الاجتماعية أن المعرفة الثقافية قد خزنت وعاشت فى رؤوس عجائز القبيلة .. وفى عصر التصنيع اتخذ بنك معلوماتنا قالباً جديداً فى شكل مكتبات مليئة بالكتب . والآن ( بالميكرو كمبيوتر ) أصبح أعضاء القبيلة العالمية الجدد ( بدو ) المعلومات العالمية باحثين عن القرية العالمية والغذاء الثقافى . وهذا لا يتم سوى فى ظل إرشاد المعتقدات والقيم فهى الأساس وراء اختياراتنا الثقافية ، كما سبق وأوضحنا وبالتالى فهى وسائل بناء الحضارة العالمية ( Feather , 1989,93-94    ) .
إذاص فإن التكنولوجيا تؤثر بقوة على القيم ، وفى المستقبل سوف تسهم أكثر فى إحداث تغيرات قيمية ، وسوف تعيد تقنين قيمنا ( فالجمال ) و ( المتعة ) و ( الثروة ) و ( القوة ) و ( العدل الاجتماعى ) قيم ومعان لا يمكن تحديدها إلا فى نقطة زمنية محددة حسب اقطار التكنولوجى الموضوعة فيه . وغدا ستقوم التكنولوجيا بإعادة تقنين مفاهيمنا عن الذات فى إرتباطها بالخبرة وتضخيم اللذة ، وربما تجعلنا نراجع فهما للحقوق الفردية عندما تسمح الوفرة الناتجة عن " التشغيل الآلى " بضمان حدود دنيا إقتصادية معينة لكل الناس . ومثل هذا حدث فى قيمة الخصوصية لدينا فقد كانت الخصوصية تعنى مائة متر بين منزلك ومنزل جارك ، والآن تعنى غياب مجسات التليفون ! ( توفلر ، 1990 ) .
إن التكنولوجيا عامل حاسم فى إحداث التغير القيمى فى محتواه ودرجته .
  1. تغير القيمة الحادث بسبب التغير السياسى واليدلوجى .
وهنا يحدث تلقين فكرى أو تغذية عقلية بقيم معينة تتسق مع طبيعة النظام الذى يملى هذه القيم وقد تأخذ هذه القيم شكلا تدريحيا من اشتراط إلى افعلان والترويج promation    وقد تأخذ شكلاً ايدلويجياً ثقيلاً ، ويمكن أن يحدث هذا النمط من التغير بصورة أشد فى المستقبل القريب إذا انهارت قيم سياسية معينة فى مجتمع كأن تتأكل الإجماع عليها أو تكون فى طبيعتها ثورة لا عقلانية ، أو لوناً من ألوان التطرف أو استجابة للسخط الناتج عن تنامى التوقعات والآمال بصورة أكبر من حجم الحدود ممكنة التحقيق ، هما قد يؤدى إلى انتصار التطرف ( اليمينى أو اليسارى ) ( Gordon , 1969,75 ) .
(ج) تآكل القيمة بسبب الملل واكتشاف الوهم ورد الفعل :
والسبب الجذرى هنا واحد من نشيله من العوامل السوسيولوجية التى تعمل عملاً مؤثرا فى المجتمع ، إذ يمكن لمكانة القيمة أن تتآكل وتمحى عندما تفقد بعد أن اكتمل إدراكها عملياً فى المجتمع فتنخفض درجتها بسبب زوال سعرها واكتشاف وهمها . وأمثلة ذلك قيمة " الكفاية EFFICIENCY  " فى فترة الولع بالتشغيل الآلى ، وقيمة " التقدم " فى عصر التوتر هذا . والأمن الاقتصادىفى عصر الرفاهية ، والاستقلال الوطنى الناشئ فى جو الفوضى الاجتماعية والاقتصادية .
ويحدث بعض التآكل فى مكانه القيمة من خلال مجرد مرور الوقت .
(د) تغير القيمة الحادث بسبب التغير الدينى :-
يعتبر الدين من أهم العناصر القيمية الثقافية باعتباره محوراً أساسياً فى عملية التغير المجتمعى بصفة عامة . ففى دراسة عالمية أجريت عام 1987 عن القيم العشرين المؤثرة فى التغير الثقافى فى العالم ، وجد أن الدين احتل المرتبة السابعة فى أمريكا اللاتينية والكاريبى ( الكاثوليكية ) ونفس المرتبة لدى العرب والمسلمين ، فى حين جاء فى المرتبة الثامنة فى إفريقيا ، والترتيب الخامس عشر فى كل من أمريكا الشمالية وأسيا . ولم يظهر فى القيم العشرين سواء فى أوربا الشرقية أو الغربية . ففى أوربا يعتبر الدين من أضعف القيم فى الحضارة الغربية .. فقد أهتز الدين رسمياً فى الغرب ، بسبب الردة والانشقاق والثورات( Feather,1989,88-98 )  ) .
ولعلى قدرة الدين على تغير القيم تبدو واضحة فى أوربا فبينما كانت الكاثوليكية الرومانية " ترى أن المجتمع يمكن تحريكه ولاكن لا يتم ذلك إلا من خلال ( الكاهن ) ، علاوة على ان الاستخدام الإنتاجى الرأسمإلى كان ينظر إليه على انه " ربا " ولذا كان محظوراً . ولكن مجى اللوثرية " و " الكلفانية " بعقيدة مسيحية إيجابية هى ( البروتستنانية ) قلبت هذه القيم ومجدت العمل والحياة والتقدم ، وأتاحت للكاهن أن يتزوج كما أتاحت إطلاع والمعرفة وإنفتاح على العالم بالقراءة ، وجعلت الدب الدينى متاحا باللغات القومية وأخيراً نفت الوصمة عن التراكم الاقتصادىلذا نرى أن ( فيبر ) يعتبر روح الرأسمالية ( التابعى ، 1985 ، 194 – 229 ، بيومى ، 1981 ، 1996 – 205 ) .
وكذلك فإن العقيدة الكونفوشيوسية أقرت بضرورة تحرك المجتمع وعدم جموده ، وأتاحت للفرد أن يمر على اختبارات أكاديمية حتى يمكنه أن يحصل على الثروة كموظف حكومى .. وبهذه النقطة وصلت الصين إلى هذا التقدم التكنولوجى السياسى اكثر من أى بقعة أخرى فى العالم ، وإصلاح البروتستنانى جلب عدة تغيرات ثقافية ، وأخيراً أدى إلى الاقتصادىوالتطور التكنولوجى فى أوربا البروتستانية .
وقد استنتج بيلا bellah أنه خلال حكم توكيوجاوا Tokugawa  ( 1860 – 1868 ) كانت الثقافة اليابانية التقليدية قد تطورت بدرجة متساوية لتعاليم البروتستانت والتى ربطت عناصر من الكونفوشية والبوذية والشنتو لتكون منها خريجاً وصل بها إلى التقدم الاقتصادى الملحوظ . وفى الفترة بين عام 1950 – 1965 وجد أن بين 76 دولة لم تكن اليابان فقط ، ولكن أيضاً ( تايوان ) وكوريا الجنوبية ( الدولة التى تمثل الكونفوشية القديمة ) تقع هذه الدول على قمة عشر دول فى النمو الاقتصادى... وخلال الفترة من 1965 إلى عام 1984 كانت هناك ثلاث دول تمثل أسرع دول فى النمو الاقتصادى، والتى تمثل تعاليم كونفوشية والبوذية وهى سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج – أما تايوان واليابان فتقع بين العشر دول المتقدمة بينما تقع الصين فى المركز الثالث عشر ( Inglehart  ) .
وبديهى أن الإسلام قد استطاع أن يغير حياة العرب البدو تغير قيما جذرياً بحيث أكسبهم منظومة قيمية وأخلاقية جديدة وبعثهم كأصحاب رسالة كبرى فى العالم . ولكن عندما تخلى المسلمون عن قيم ومعايير إسلام حدث تغير وتراجع حضارى فالإسلام جاء كدين وثقافة وحضارة .
غير وجه الحياة فى الجزيرة العربية بل فى العالم كله وجمع أية من ثقافات وعرقيات مختلفة وتوحده بعقيدة ولغة وقيم ، فكانت احسن أمة أخرجت على الناس ( قمبر ، 1992 ، 22-23 ) .
( هـ) تغير القيم الحادث بسبب تغير المعلومات
والسبب التغير الجذرى فى هذه الحالة ذو صفة " معرفية " خالصة " فهو من النوع المنتمى لتغيرات القيمة الحادثة بسبب اكتشافات فى المعرفة إنسانية وفى العلوم . فلنفترض مثلاً أن " شريف " يعلى شأن قيمة ما ( ولتكن التقشف ) . وهذا تقييم وسلى ، أى أن هيرى أن هذا التقييم هو وسيلته إلى قيمة أخرى ( ولنقل الازدهار الاقتصادى لبلاده ) فإن أقنعه شئ علمى ( مثل إكتشافات اقتصاديين ) بخطأ هذه العلاقة المفترضة بين غايته ووسيلته ، فإن " شريف " سيخفض بالتأكيد درجة القيمة المعاونة ( أو الوسيلة ) حسب الموقف الجديد .. لذا فإن كل القيم الوسيلية المرتبطة بالازدهار الإنساني والإعتزاز بالذات ستمر بعملية إعادة تقدير مؤلمة أنظر : ( Rescher . 1969-74  ) .
 
 
(و) تغير القيمة الحادث بسبب الحروب :
تمثل عملية الحروب عملية مخاض تولد فيها الشعوب من جديد بصرف النتيجة عن نتيجتها: انتصارا كانت هزيمة وإن كان شكل التجديد يختلف من حالى لأخرى فالحرب الهجومية أو الدفاعية تتطلب إعادة تنظيم إمكانيات المجتمع وتعبئة قواه العاملة . وفى حالة النصر
 فإن المجتمع يكسب خبرات ومفاهيم وأساليب – وربما ثروات – تعزز من إيجابيته وفاعليته فى بناء قوته ودعم حركته فى التوسع والتقدم . وفى حالة الهزيمة فإن المجتمع أى مجتمع إذا لم يحاصر ضغوط مانعة يعيد النظر فى كل أموره ويقم سياسة جديدة تعدل من أنظمة وأساليب حياته وإنتاجه بما يمكنه من مواجهة الأزمات التى خلفتها الحرب . ( قمبر 1992 ، 23 ) .
ولعل بعد ما حدث بع الحربين العالميتين الأولى والثانية من تبدل وتحول جذرى فى قيم المجتمعات العالمية ( خاصة الأوربية والأمريكية ) لشاهد على هذا النموذج من التغير القيمى .
وإذا تعمقنا ما حدث فى الأنساق القيمية لها نستطيع أن نتبن بجلاء كم تستطيع الحروب أن تحدث زلازل وانقلابات فى الأنساق القيمية وان تتولى إعادة تقنين ، وإعادة ترتيبها وإعادة توزيعها ونشرها ، بل أنها قادرة على دفع الأفراد على نبذ قيم طالما أمنوا بها وسلكوا وفقا لها .
(ز) تغير القيمة الحادث بسبب الطفرة اقتصادية 
وتعتبر اليابان ومنطقة الخليج العربى نماذج صارخة لمثل هذا التحول أو التغير القيمى .
ففى اليابان نجد أنها بصرف النظر عن بداياتها  الحضارية السابقة قد نهضت من ( الفقر المدقع )  إلى ( الرخاء المدهش ) فى جيل واحد والدلائل على حدوث تغيرات فى القيم العامة للناس فى اليابان موجودة فى الشخصية القومية اليابانية . فقد أوضحت الدراسات المتعلقة بقيم الشخصية القومية اليابانية والتى أجريت منذ عام 1953  كل خمس سنوات وحتى عام 1983 أن عمليات البحث أثبتت أن القيم الثقافية  اليابانية قد تغيرت عبر محاولات مختلفة خلال الفترة .
فانتقلت من قيمة : تقديس إمبراطور " ثم " تدهور هذا التقديس " ثم التركيز على قيمة التمييز الفردى " . وانتهت إلى قيمة المشاركة السياسية ونهوضها " ( Ingiehart ) .
وأما فى الخليج العربى فقد أظهرت الحقبة النفطية خلال أقل من ثلاث عقود شخصية خليجية متميز تتمسك بقيم جديدة معظمها ايجابى . وخاصة ما اتصل منها بالعلم والتعليم ، والوعى الاجتماعى والسياسى والأسرى ومكونات الدولة الحديثة المستقلة .. إلخ ألا أنها " قد أفرزت ودعمت القيم الاتكلية على الدولة البوية .. ومن خلال من خلال ما عرف من سياسات الرفاة الإجتماعى كما افروت الاعتماد على قدرة المال على شراء أى شئ وكل شئ ومن خلال المضاربات والمغامرات العقارية والمالية هذا بالإضافة إلى تضائل قيمة العمل اليدوى والمنتج إجتماعياً والاعتماد على العمالة الوافدة كما " ظهرت بعض التشوهات القيميمة المتشابكة اسرياً وانتاجياً واستهلاكيا .
كذلك فإن التحول من المجتمع التقليدى إلى نمط التشكيلات الرأسمالية قد أدى على ظهور قيم جديدة تركزت حول القيم النقدية والمادية وإنتاج السلع وحوافز الربح " ( أعمار 1989 ، 149 .
خاتمة
أن تأمل القيم من خلال المستقبل أو تأمل المستقبل من خلال القيم يبين لنا ما إذا ما أردنا دخول القرن الحادى والعشرين فإنه ليس علينا فقط أن نتكيف مع الظروف والتوجهات المحلية والإقليمية والكونية بل نحتاج علاوة على ذلك إلى إطار " وأدوات " نستطيع أن نسبر بها أغوار المستقبل .
ونظراً لأن " مستقبل القيم " هو فى بؤرة اهتمامنا الخاص فإن علينا أن ننظر إلى المستقبل كليته ، عربياً وعالمياً ، وذلك من خلال توظيف فاعل للإمكانات المتاحة فى نظرية التغير القيمى المستقبلى تلك التى عرضنا لبعض ملامحها من قبل فى فحص تفصيلى لجملة الوقائع الثقافية الاجتماعية فى محليتها وخصوصيتها العربية وفى تفاعلها مع محددات حركة التنمية العربية ثم السعى نحو رسم تقديرات للاحتمالات المستقبلية والأزمات والمخاوف التى تؤدى إلى إضعافه وشل حركته ويصاحب هذا تقييم دقيق لمجمل حركة المعارف والعلوم الحالية وتوجهاته المستقبلية .
ويفترض أن يتبلور من خلال هذا كله تشكيله من المؤشرات المستقبلية وان تتم تجلية العوامل والمؤثرات المتقلبة فى إبعادها السياسية والثقافية والعلمية / التكنولوجية التى تلعب دورا فى تعزيز هذه المؤشرات القيمية مع النص على مفرداتها فى إيجابياتها وسلبياتها ولعل هذا كله هو موضوع دراسة أخرى قادمة .